نهتم في هذه الدراسة برصد مفهوم جماعة المسلمين، لا على مستوى النظر ولكن على مستوى الحركية في الواقع الذي يتنزل في سياقه، ويتفاعل فيه مع مختلف مفرداته. نحاول أن نستجلي مفهوم جماعة المسلمين من خلال نشأة الجماعة واقعا شاخصا في عهد النبوة، ونتتبع من خلال وقائع تاريخية مسلسل انحداره متسائلين عن أسباب هذا الانحدار. كما نحاول الإحاطة بدلالاته الشاملة، متسائلين عن أسس الحفاظ على الجماعة، والتأويلات التي لحقت المصطلح في مختلف مراحل تاريخ المسلمين، ونتساءل عن مدى ضرورة التشبث به في زمننا اليوم، والعقبات الأساسية التي تعترضه.
نشأة جماعة المسلمين في عهد النبوة
لا يمكن أن نعي دلالة مصطلح “جماعة المسلمين” النبوي دون مساءلة سياق ولادته في مرحلة النبوة. لقد كان المؤمنون في المرحلة المكية مبتلين بشتى أنواع الابتلاءات، ولم يتمكنوا من تشكيل جماعتهم المتخذة سماتها وخصوصياتها، والانتقال من مرحلة الدعوة والاستضعاف إلى مرحلة الدعوة والدولة إلا بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، حيث هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إليها المهاجرون، واستقبله فيها الأنصار. فلنعقل أربع متلازمات شكلت المحددات الأساسية لجماعة المسلمين الأولى في نموذجها الكامل: الوحي، والقيادة النبوية، وحزب الله من الأنصار والمهاجرين، والمدينة المنورة.
لقد كان القرآن الكريم ينزل طريا على أسماع الأنصار والمهاجرين، فكانوا يستمعون إليه بنية التنفيذ والعمل، وكانوا يعلمون أنهم المعنيون بالنداء الرباني يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. لقد كان الوحي الرباني يضع تفاصيل حياة الجماعة الوليدة في مختلف المناحي والمجالات، وأي محاولة لتكوين جماعة مفارقة ومخالفة لجماعة المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم تنعت بكونها من الأحزاب القائمة لمحاربة الله ورسوله.
فالملحوظ في القرآن الكريم أن كل الصيغ التي ورد فيها لفظ “الحزب” بصيغة الجمع جاءت بمعاني قدحية، مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17]، وقوله عز وجل: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الزخرف: 65]. في حين كانت تتم الإشارة إلى جماعة المسلمين عبر صيغة الإفراد بدلالات إيجابية، إثباتا أن ليس هناك في دولة المدينة الوليدة إلا حزبا لله واحدا بقيادة نبيٍّ مصطفىً من عنده. قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 56]، وقال عز من قائل: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22].
إن حزب الله في القرآن الكريم يقوم باعتباره اجتماعا مناقضا لمقومات حزب الشيطان، كما أنه يمثل حالة جديدة تلغي طبيعة الولاءات والعصبيات القائمة بين أبناء الجماعة لتجعله مبنيا على معاني الولاء لله عز وجل، والتي تصبح المعيار في ضبط علاقات المؤمن مع غيره، فيعادي حتى أقرباء الدم إن كانوا من الصادين عن سبيل الله.
إذا انتقلنا إلى المحدد الثاني المتمثل في الإمامة النبوية للأمة الوليدة فخصوصياتها أنها إمامة معصومة، وأنها تولية مباشرة من الله عز وجل، لذلك أُمِر المؤمنون باتباعه فيما دق من الأمور وجل. قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115]، فطاعته في كل أمر مسألة اعتقادية، ومبايعته مبايعة لله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10]. فالإمامة عن الله أمر اختص الله به أنبياءه، حتى إذا كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيئين انقطع هذا الاختصاص، فإن ادعى بعده أحد أن مشروعية إمامته تتعالى فوق الخلق لتتصل بالخالق، فإنما يكون قوله زورا، وادعاؤه بهتانا.
أما المحدد الثالث المتمثل في “الأمة الخاصة، وهي “جماعة المسلمين” 1 ، فيمنح الكلم القرآني خصوصياتها في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال: 72]، فالآية من سورة الأنفال المدنية تميز بين جماعة مكونة من المهاجرين والأنصار الذين تجمعهم ولاية خاصة والجماعات التي لم تلتحق بالمدينة، فتسقط ولايتهم رغم إيمانهم لعدم هجرتهم إلى المدينة عنوان الجهاد.
فوجب الوعي بأن الأمة الوليدة تتكون من دوائر متعددة، وقع التمايز بينها بمعياري التقوى والجهاد، وكل دائرة تضم أصنافا شتى من الناس، والدعوة المحمدية كانت من أولى أولوياتها جذب الأطراف نحو المركز، الأطراف هم الأعراب، والمركز هم جماعة المسلمين، وبينهما السواد الأعظم الذين ينتقل انتسابهم من الأعرابية إلى جماعة المسلمين بشرط الهجرة إلى المدينة.
يتعلق المحدد الرابع بمكان اجتماع جماعة المسلمين بقيادتهم النبوية في المدينة المنورة، حيث بلغت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أن كان التوارث بينهم شرعا من الشرع قبل أن ينسخ. لقد كانت الهجرة إلى المدينة نُقلة من مكان إلى مكان تترجم عمليا تحول الولاية من العشيرة والقبيلة والأرض والمألوف إلى الله ورسوله والمومنين والمستضعفين، وهم المستضعفون على الدين المظلومون. كانت المدينة مجمع حزب الله، فكل من هاجر وسكن المدينة فإنما هو مؤمن جاء إلى رباط جند الله، وتجند، ورابط وجعل نفسه رهن إشارة الله ورسوله والمؤمنين في كل لحظة. رباط مستمر، وجهاد متواصل) 2 .
لذلك كان الوعيد القرآني شديدا في حق من لم يهاجر إلى المدينة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 97]، لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية -في مكة وغيرها- بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيام الدولة المسلمة. فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا. حبستهم أموالهم ومصالحهم – حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجراً يحمل معه شيئاً من ماله – أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة – حيث لم يكن المشركون يدعون مسلماً يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق.. وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلاً للهجرة) 3 ، هذه الجماعة الأخيرة استثناها الله تعالى من وعيده في تتمة الآيات: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 98 / 99].
وكما كان الوعيد شديدا في حق المتقاعسين عن الهجرة إلى مدينة جماعة المسلمين وقيادتها النبوية، كان نفس الوعيد يلحق كل من قام بهجرة معاكسة، لذلك كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب مخافة أن تلحقهم اللعنة يوم القيامة كما جاء في الحديث المروي عن الحارث بن عبد الله، “قال، قال عبد الله: آكلُ الربا وموكلُه وشاهداه وكاتبُه إذا علموا به، والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد هجرته، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة” 4 ، فالمهاجر إذا انقلب من المدينة المنورة إلى البادية عُد مرتدا، إذ أن تحوله كان يعني البعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتخلي عن أعباء الجهاد الملزمة للأنصار والمهاجرين الساقطة عن الأعراب حتى يهاجروا، فكانت هجرة المهاجرين هجرتين: هجرة مكانية من مكة إلى المدينة، وهجرة قلبية من قعود إلى جهاد) 5.
[2] عبد السلام ياسين “جماعة المسلمين ورابطتها” دار لبنان للطباعة والنشر. ط1/ 2011. ص 57.\
[3] سيد قطب “في ظلال القرآن”.\
[4] مسند الإمام أحمد، كتاب مسند المكثرين، باب مسند عبد الله بن مسعود. وسنن النسائي، كتاب الزينة، باب المستوشمات، وصححه الألباني في: “صحيح الجامع الصغير وزيادته”.\
[5] خالد العسري “الشورى المغيبة: الشورى بين نصوص الوحي ومسارات التاريخ” دار السلام للطباعة والنشر/ القاهرة. ط1/ 2007. ص 91.\