جماعة المسلمين: بداية مسلسل الانحدار
تغيرت سياسة الخليفة الراشد الثالث تجاه حصر المهاجرين في المدينة، فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر، فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع إليهم من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام، فكان مغموما في الناس، وصاروا أوزاعا إليهم، وأملوهم، وتقدموا في ذلك. فقالوا: يملكون فنكون قد عرفناهم وتقدمنا في التقرب والانقطاع إليهم. فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام وأول فتنة كانت في العامة) 1 .
لا تقف الفتنة على التأقلم مع أوضاع الرفاه الجديدة في المجتمع الإسلامي الذي بدأت تملأ خزائنَه أموالُ الفتوحات الإسلامية، ولكن الوهن الأول مس “الفقه الجامع” الذي كان مجسدا في المدينة المنورة، فلما تفرقت الجماعة وانتشرت في الأمصار شكل كل عالم من علماء الصحابة نواة جماعة علمية دعوية تربوية. كانوا أساتذة جيل التابعين، أساتذةً يوحدهم أنهم تخرجوا من مدرسة واحدة، وتلقوا التربية النبوية سواء. ويفرقهم الرأي، والطبع، والاجتهاد، والموقف السياسي. ومن جيل لجيل توالدت المدارس، فتعذر الإجماع الذي كان قريبا قبل الانتشار) 2 .
لقد كان تفرق جماعة المسلمين في الأمصار أول تهديد حقيقي مس وحدة قراءة نصوص الوحي وكيفية تنزيلها على الواقع، وما زاد الأمر استفحالا استمرار “الفراغ الدستوري” المحدد لكيفية انتقال الحكم من أمير المؤمنين إلى آخر، وهو ما شكل ثغرة كبرى في بناء الخلافة الراشدة، ثغرة سلبية في بناء وضيء شامخ.
إن أخطر مسألة غاب عنها الإجماع المطلوب من جماعة المسلمين، فتركت تداعياتها على امتداد تاريخ المسلمين إلى اليوم تلك المتعلقة بإمامة علي كرم الله وجهه، فكانت بداية الفتنة التي ما زالت أشراطها متحكمة في بنية العقل السياسي للمسلمين منذئذ. نقرأ عن تداعيات افتراق رجالات جماعة المسلمين في الأمصار بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه على لسان حكيمنا ابن خلدون، قال: فأما واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار، فلم يشهدوا بيعة علي. والذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام كسعد وسعيد، وابن عمر، وأسامة بن زيد، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن سلام، وقدامة بن مظعون، وأبي سعيد الخدري، وكعب بن عجرة، وكعب بن مالك، والنعمان بن بشير، وحسان بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصحابة. والذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى، حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه) 3 .
لقد غاب عن المدينة تألقها، واجتماع “مؤسستها الدستورية” الممثلة في جماعة المسلمين ووقع الخلاف في لحظات حرجة من تاريخ المسلمين أنهى مع الحكم الراشد بإقبار البيعة الشرعية التي عوضها ببيعة عرفية تؤخذ كرها، وبسوم الأنصار والمهاجرين عذابات وفتنا دامية من ملوك العض الذين استتب لهم الأمر.
وقعت الفتنة بين الصحابة في موقعة الجمل، ووقف صحابة حيارى أمام الموقف. وتم الاستنجاد مبكرا بأحاديث اعتزال الفتنة باعتزال إمام المسلمين وجماعتهم بعد أن عُمِّي عليهم تمييز الخير عن غيره، نقرأ حديث حذيفة بن اليمان ونرى كيف سارع صحابة إلى تطبيقه، في إشارة بليغة إلى الأزمة الخانقة التي أصبحت تمر منها “جماعة المسلمين”. قال حذيفة رضي الله عنه: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: “نعم”. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: “نعم، وفيه دخن”. قلت: وما دخنه؟ قال: “قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر” قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: “نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها” قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: “هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا” قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: “فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك” 4 .
بموجب هذا الحديث وما شابهه استقال جمع من الصحابة الأحداث كلها عملا بالنصيحة النبوية بعد أن أشكل عليهم الأمر، فقد “قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل! فإنك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ قال: لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف الكافر من المؤمن، قد جاهدت وأنا أعرف الجهاد ولا أنجع بنفسي إن كان رجلاً خير مني” 5 ، كما أن كعب بن سور الأزدي طين عليه بيتا، وجعل فيه كوة يتناول منها طعامه وشرابه اعتزالا للفتنة) 6 ، قبل أن تقنعه أمنا عائشة بالخروج معها، وعرض الإمام علي على أسامة بن زيد الدخول معه في أمره، فرفض قائلا: يا أبا حسن، إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد؛ لأخذت بمشفره الآخر معك؛ حتى نهلك جميعا أو نحيا جميعا، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه؛ فوالله لا أدخله أبدا) 7 . و“عن ثعلبة بن ضبيعة، قال: سمعت حذيفة يقول: إني لأعرف رجلا لا تضره الفتنة محمد بن مسلمة. فأتينا المدينة فإذا فسطاط مضروب، وإذا فيه محمد بن مسلمة الأنصاري فسألته، فقال: لا أستقر بمصر من أمصارهم حتى تنجلي هذه الفتنة عن جماعة المسلمين” 8 .
في قتال الإمام علي كرم الله وجهه الفئة الباغية بقيادة معاوية بن سفيان زادت الفتنة استفحالا، وضعف تأثير “جماعة المسلمين” المفككة على مسار الأحداث؛ بل كاد ينعدم. ضاعت آيات القرآن الرافعة من شأن ذوي السابقة، وضاعت وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الموصية بصحابته الكرام، وضاعت وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الخلافة في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أُحد ما بقي منهم أَحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء) 9 . وهو ما ذكر به الإمام علي كرم الله وجهة معاوية في رسالة بعثها له: فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يذر، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا) 10 .
تحولت الخلافة إلى ملك عضوض فانقلبت القيم التي قامت عليها جماعة المسلمين، وفعل برجالاتها أفاعيل مازالت تدمي القلب عند كل تذكر لها. استشهد في كربلاء سيد شباب الجنة الحسين بن علي رضي الله عنهما والكثير من آل البيت، وسبيت نساء آل البيت عند حكام العض. وتم حصار المدينة المنورة في موقعة الحرة التي جرت مآسيها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين. وأصيب يومئذ عبد الله بن زيد بن عاصم حاكي وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ومعقل بن سنان، ومحمد بن أبي بن كعب، وعدة من أولاد كبراء الصحابة. وقتل جماعة صبرا. وعن مالك بن أنس، قال: قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبع مئة) 11 . وعاشت مكة حصارا متواليا وهي تعلن أن خليفتها هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وقد نصب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصر أهلها حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك وكان مع الحجاج الحبشة، فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقا كثيرا، وكان معه خمس مجانيق فألح عليها بالرمي من كل مكان، وحبس عنهم الميرة، والماء، فكانوا يشربون من ماء زمزم، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة، والحجاج يصيح بأصحابه: يا أهل الشام الله الله في الطاعة) 12 .
انقلبت الأعرابية على جماعة المسلمين، وانقلبت حمية العصبية على الولاء لله، وانقلب التاريخ على الوحي، وانتصرت الشام عل المدينة المنورة ومكة المكرمة، كان قضاء الله ماض إلى قدره لحكمة الله أعلم بها.
بعد تحول الخلافة إلى ملك عضوض وجبري، سقطت وحدة القيادة للأمة بسقوط آلية اختيارها الحرة الممثلة في الشورى، وتحولت البيعة الشرعية إلى بيعة عرفية. وسقط المكان الجامع في غياب التقعيد الدستوري لمفهوم جماعة المسلمين، وتم التحول إلى عواصم أخرى كانت أولاهما الشام، وخاتمتها إسطنبول التي حافظت على رمزية وحدة الأمة الإسلامية تحت مسمى الخلافة قبل أن تصبح الدولة القومية عنوان تجزئة المسلمين وانتكاستهم. وتم استتباع الدولة للدعوة، يتنازل السلطان فيهتم بالدعوة، يضع الدعوة إلى جانبه في أشخاص علماء القصور فتعتز بقربها منه، أو يضعها تحت إبطه في طي جلابيبه. يستنصر السلطان يتكئ عليه ليظهر للأمة بمظهر أقوى مما يخوله طروؤه على الأمة، وتسلطه عليها، وارتقاؤه على رقابها بغير رضاها. وفي كل هذه الحالات فالسلطان أصل والدعوة فرع، السلطان إمام والدعوة مأمومة، السلطان سيد والدعوة تابعة) 13 .
[2] عبد السلام ياسين “جماعة المسلمين ورابطتها” مرجع سابق. ص 74.\
[3] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون “مقدمة ابن خلدون” دار الجيل/ بيروت. بدون تاريخ. ص 236 ـ 237.\
[4] محمد بن إسماعيل البخاري “الجامع الصحيح” تحقيق: محب الدين الخطيب. المكتبة السلفية / القاهرة. الطبعة الأولى /1400هـ. الرقم 7084.\
[5] مستدرك الحاكم. كتاب الفتن والملاحم. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.\
[6] شمس الدين الذهبي “سير أعلام النبلاء”. بيت الأفكار الدولية-لبنان. ط 2004. 1/405.\
[7] المرجع نفسه. 1/1052.\
[8] الحاكم في المستدرك على الصحيحين.\
[9] ابن سعد “الطبقات الكبرى” 3/342.\
[10] ابن قتيبة. “الإمامة والسياسة” تحقيق: خليل المنصور. بيروت. دار الكتب العلمية. ط1/1997. ص: 80.\
[11] شمس الدين الذهبي “سير أعلام النبلاء” مرجع سابق. 3/322.\
[12] ابن كثير الدمشقي “البداية والنهاية” تحقيق: علي شيري. دار إحياء التراث العربي. الطبعة الأولى/ 1988. 8/ 363.\
[13] عبد السلام ياسين “جماعة المسلمين ورابطتها” مصدر سابق. ص 33.\