جماعة المسلمين: النشأة ومسار الانحدار.. إضاءات من فكر الإمام المجتهد عبد السلام ياسين (2)

Cover Image for جماعة المسلمين: النشأة ومسار الانحدار.. إضاءات من فكر الإمام المجتهد عبد السلام ياسين (2)
نشر بتاريخ

جماعة المسلمين في مرحلة الخلافة: طوارئ وإجابات

إن أهم متغيرين حصلا في الاجتماع السياسي للمدينة المنورة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تمثلا في انقطاع الوحي، وغياب القيادة المعصومة.

إن انقطاع الذكر الحكيم عن مرافقة الأحداث المتوالية في مجتمع المدينة كما كان العهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سيفتح الباب أمام التأويل. كما أن غياب الإمام المعصوم سينقل الأمة إلى قيادة مجتهدة تصيب وتخطيء، وهو ما أكده خليفة المسلمين وإمامهم الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الخلافة الأول. فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أنا أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني” 1.

لقد ظل الوحي الإلهي يرن في الأسماع أن الأمة الوليدة مطالبة بالحفاظ على توحيد الله عز وجل، وصيانة وحدة الأمة، وهو ما نجد جِماعه في قوله تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52]. وهو الأمر الجلل الذي أكدته الوصايا النبوية المتعددة لعموم المسلمين، وعدا ووعيدا.

فعن “عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ « وَيْحَكُمْ – أَوْ قَالَ وَيْلَكُمْ – لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ” 2، كما أمر الأمة أن تقتل كل من يريد تفرقة صفها منعا لتعدد أئمتها وخلفائها، فإنما هي أمة واحدة، وجماعتها واحدة، وإمامها واحد خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنه ستكون هَنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف، كائنا من كان” 3، وفي حديث آخر: “إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما” 4.

في الخلافة الراشدة كان السعي للحفاظ على وحدة الأمة، وقيمها، وولايتها يتحقق عبر ثلاث آليات، وهي: الحفاظ على وحدة القيادة، والحفاظ على بنية جماعة المسلمين، والحرص على استمرارية المدينة المنورة مكانا جامعا للجماعة والإمام.

ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية بالحفاظ على وحدة الأمة بوحدتها على إمامها، ولم يترك الوصية لأحد من بعده، لذلك كان تحدي حفظ وحدة الأمة بحفظ جماعة المسلمين فيها، والذين عليهم أن يبدعوا في اختيار خليفة المسلمين بما يحقق الإجماع عليه، لتكون له القدرة على مغالبة واقع بدأ يرتد على عقبه بعد وفاة الإمام المعصوم صلى الله عليه وسلم.

لقد كانت الشورى هي الآلية التي من خلالها يمكن استجلاء الآراء والمواقف من أجل اختيار خليفة المسلمين الأنسب، ويمكن ملاحظة أن الشورى والبيعة كانتا تتمان ضمن الأمة الخاصة من المهاجرين والأنصار، أي جماعة المسلمين، قبل أن تأخذ البيعة العامة من عامة المسلمين. فلنقل أن الاختيار كان يتم على مرحلتين، وبذلك كانت بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة الجامعة للأنصار وثلاث من ممثلي المهاجرين؛ قبل أن تكتمل في المسجد بأخذ البيعة من العامة القاطنة في المدينة المنورة.

وفي محاولة لتجاوز فجائية الأحداث التي طبعت اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه اجتهد الخليفة عمر في ترك أمر الخلافة شورى بين المرشحين المبشرين بالجنة، ولم يستثن منهم إلا من كان قد مات وسعيد بن زيد لأنه من أقاربه؛ فتورع عن إدخاله. وكان إجماع الأمة على إمام المسلمين تحصيل حاصل مادام يلقى كل الدعم والسند من جماعة المسلمين التي كانت قائمة واقعا لا نظرا.

كانت جماعة المسلمين شاخصة أمام العيان في المدينة المنورة، معروف رجالاتها، معلومة مساكنهم، غير خافية أحوالهم وآراؤهم ومواقفهم، وكان حرص الإمامين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما مشتركا على أن تستمر المدينة المنورة جامعة لجماعة المسلمين، حافظة لهوية هذه الجماعة أن يلحقها الغبش والتلف. فقد قيل لأبي بكر الصديق: “يا خليفة رسول الله! ألا تستعمل أهل بدر؟. قال: إني أرى مكانهم، ولكني أكره أن أدنسهم بالدنيا” 5، حرصا منه على أن يظلوا بقربه في المدينة عاصمة الخلافة، وهو نفس جواب عمر بن الخطاب حين سئل “ما لك لا تولي الأكابر من أصحاب رسول الله عليه السلام؟ فقال: أكره أن أدنسهم بالعمل” 6.

إن عمر لم يمت “حتى ملته قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة فامتنع عليهم، وقال: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد. فإن كان الرجل ليستأذنه للغزو؛ وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة؛ فيقول: قد كان في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك” 7. حصر المهاجرين من قريش مادام أن الأنصار لن يغادروا المدينة التي تعد موطنهم الأصلي.

لقد “حافظ عمر رضي الله عنه على وحدة الجماعة بحصر المهاجرين في المدينة، فلم يكن مجال لاضطراب الناس، أو ترددهم في معرفة هوية “جماعة المسلمين”” 8، وكانت الجماعة تقوم بوظائف خطيرة متعددة، أولاها أنهم كانوا عنوان وحدة الأمة الإسلامية، وهم الموكول إليهم ترسيخ الأعراف السياسية، والتربوية، والعلمية، والاجتماعية.

كانت جماعة المسلمين تمثل رجال الدعوة الذين يعملون خارج دولاب التدبير اليومي لشؤون الحكم، دون أن يفقدوا مكانهم التربوي والتوجيهي والشوري والرقابي على العمال والولاة في الأمصار، فقد “كان عمر إذا استعمل عاملا كتب له عهدا، وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأنصار، واشترط عليه ألا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا ولا يتخذ بابا دون حاجات الناس” 9.


[1] مالك بن أنس “الموطأ” تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي. مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية – أبو ظبي – الإمارات. الطبعة الأولى، 1425 هـ – 2004 م. 1/161.
[2] أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري “الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم”تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي. الناشر: دار إحياء الكتب العربية. الطبعة: الأولى – سنة الطبع: 1374هـ. ص 65.
[3] صحيح مسلم- كتاب الإمارة- باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع. المرجع السابق. ص 1852.
[4] صحيح مسلم- كتاب الإمارة- باب إذا بويع لخليفتين. المرجع السابق. ص 1853.
[5] أبو نعيم الأصبهاني “حلية الأولياء وطبقات الأصفياء” دار الكتاب العربي-بيروت. ط4/1405. 1/37.
[6] محمد بن سعد “الطبقات الكبرى” دار صادر- بيروت. 3/283.
[7] محمد بن جرير الطبري أبو جعفر “تاريخ الأمم والملوك” دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة الأولى ، 1407. 2/679.
[8] عبد السلام ياسين “جماعة المسلمين ورابطتها” مرجع سابق. ص 74.
[9] “تاريخ الأمم والملوك”. مرجع سابق. 2/569.