في البدء
عندما يتأمل المسلم حياة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن حاله مع القرآن كانت حال اتصال دائم ومستمر ومتواتر، لم ينقطع عهده معه أبدا، ولم تعتريه فيه حالات شرود أو غفلة أو نسيان. وذلك بما أهله الله إليه من فرض العبودية له سبحانه، وما اختاره له من مهمة الدعوة إليه. فكان صلى الله عليه وسلم يدرك حق الإدراك قدرَ القرآن الكريم عند الله تعالى وعظمَته، وكان يعلم أنه كتاب الله المختار المتمم لما جاء من الشرائع والأحكام والفضائل والقيم والأخلاق. ولأنه خطاب الله لعباده، صادر عنه سبحانه لفظا ومعنى.
مظاهر اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن واعتكافه عليه
– كثرة التدبر والتأمل في آياته، فقد روي أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ (رواه الإمام مسلم).
– اتخاذه شرعة ودستورا ومنهج حياة.
– التخلق بآدابه وأخلاقه فكان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن. ولا تخفى على أحد وصيته صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم لأمته…
ويجمع ذلك كله ما وصفه به الله تعالى في كتابه العزيز: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (سورة آل عمران، 164).
حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن
– إدراكه صلى الله عليه وسلم حجته
مما أدركه الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقّن منه أن القرآن الكريم يثبت من خلال آياته شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته، ومن ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ علي، فقلت – يا رسول الله – أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: “فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا” فقال: حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان” (رواه البخاري ومسلم).
وقال الألوسي في تفسير روح المعاني: “فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة، فماذا لعمري يصنع المشهود عليه؟! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه”. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت” (صحيح الجامع، رقم: 3723).
– محافظته صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن كل يوم
ومن كمال الاهتمام النبويّ بالقرآن أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على قراءته كل يوم، وكيف لا وعليه أنزل، وقد أمره الله بذلك: إنّما أمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة الذي حرّمها وله كلّ شيء وأن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (سورة النمل، 91-92).
لما جاء وفد ثقيف إلى المدينة أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة بين المسجد وبين أهله فكان يأتيهم ويحدثهم بعد العشاء، وفى ليلة من الليالي تأخر عليهم ثم أتاهم فقالوا له: يا رسول الله لبثت عنا الليلة أكثر مما كنت تلبث؛ فقال نعم طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه (رواه: أبوداود وابن ماجه).
– تخلقه صلى الله عليه وسلم بالقرآن
قال الله تعالى يصف خلق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (سورة القلم، 4). وعن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين؛ أخبريني بخُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن قول الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (سورة القلم: 4).
وعن عطاء رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا” (رواه البخاري).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن” (رواه أحمد ومسلم وأبو داود)، وزاد مسلم: يغضب لغضبه ويرضى لرضاه. وقال البيهقي، عن زيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: يا أم المؤمنين، كيف كان خلق رسول الله؟ قالت: كان خلق رسول الله القرآن. ثم قالت: أتقرأ سورة “المؤمنون”؟ اقرأ قد « أفلح المؤمنون » إلى العشر. قالت: هكذا كان خلق رسول الله (وهكذا رواه النسائي عن قتيبة).
وعن سعد بن هشام قال: “سألت عائشة أم المؤمنين فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله. فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى! فقالت: كان خلقه القرآن” (صحيح مسلم).
وعن البراء بن عازب قال: “كان رسول الله أحسن الناس وجها، وأحسن الناس خلقا” (رواه البخاري). وقال مالك عن عروة، عن عائشة أنها قالت: “ما خير رسول الله بين أمرين، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها” (رواه البخاري ومسلم من حديث مالك).
فكان خلقه صلى الله عليه وسلم الرحمة والرفق واليسر، والدعوة إلى الله بإذنه، ومحبته الخير للناس كافة، وعدله ووفاءه وجوده وصبره وجهاده وشجاعته وقوته في قول الحق ونصرته للضعيف. فكل صفات الخير والنبوة قد اجتمعت فيه، وقد استمد نورها وبركتها من القرآن الكريم.
ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان: “يعطي كل ذي حق حقه، ثم يفيض خيرا ورحمة على العالمين. ينبغي تقصي هديه صلى الله عليه وسلم في كتب الشمائل، واتباع سنته صلى الله عليه وسلم في عظائم الأمور ودقائقها. فالسنة الشريفة وحدها كفيلة أن توحد سلوكنا، وتجمعنا على نموذج واحد في الحركات والسكنات، في العبادات والأخلاق، في السمت وعلو الهمة. فإنه لا وصول إلى الله عز وجل إلا على طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا سبيل إلى جنة الله ورضوانه ومعرفته إلا باتباعه ظاهرا وباطنا. فذلك كله برهان عن صدقنا في اتباعه، إذ فاتتنا صحبته. (ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 142).
– تدبره صلى الله عليه وسلم للقرآن
كان صلى الله عليه وسلم في كل أحواله شديد التدبر للقرآن، وكثير التأمل في معانيه وغاياته ومقاصده، ولقد وصفت السيدة أم سلمة رضي الله عنها، قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها: قراءة مفسرة حرفا حرفا (رواه أبوداود)، ووصفت أمنا عائشة رضى الله عنها ترتيله فقالت لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها لا كسردكم هذا. وفي حديث حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. ويصف حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قراءته صلى الله عليه وسلم فيقول: “صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح بالبقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلى بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ” (رواه الإمام مسلم). وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: “قمت مع النبي صلي الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة ولا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه سبحانك ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ثم قال في سجوده مثل ذلك” (رواه أبو داود والنسائي في سننهما والترمذي في الشمائل بأسانيد صحيحة. وفى رواية النسائي: ثم سجد بقدر ركوعه).
– بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم: ربّ إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني (سورة إبراهيم، 38). وقول عيسى عليه السلام: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (سورة المائدة، 120). فرفع يديه وقال: اللهم أمتي، وبكى فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسله ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله تعالى: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
في الختم
كان من أهم ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من بعده القرآن الكريم، عن طلحة قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى: أأوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية؟ أمروا بها ولم يوصي؟ قال: أوصى بكتاب الله (رواه: البخاري في صحيحه).
وهذا يدل على حرصه صلى الله عليه وسلم الشديد على أمته من بعده ورحمته بها؛ تلك الوصية بالقرآن، كما أخبرنا مما أخبرنا به وأكد، بأن ستكون هناك فتن ستمر بها أمته، وأن السبيل الأكيد لتجاوزها، العودة إلى كتاب الله والتشبث بالأصل الأول والدليل الشرعي الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فقد قال للصحابة في يوم من الأيام: ستكون فتن، فسألوه وما المخرج منها؟ قال: “كتاب الله” (رواه: الترمذي وغيره).
وعندما أخبر صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان بالاختلاف والفرقة التي ستحدث بعده، فقال له حذيفة: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟! قال: تعلم كتاب الله عز وجل واعمل به فهو المخرج من ذلك. قال حذيفة: فأعدت عليه ثلاثا. فقال صلى الله عليه وسلم: تعلم كتاب الله واعمل به فهو النجاة.