جلست فاطمة بالقرب من سِلْفَتِها، تنظران معا إلى أطفالهما الذين صاروا رجالا ونساء؛ شقوا دروبهم في الحياة، واقتحموا ميادين العمل، وأسسوا حياة جديدة بحلوها ومرها..
تأملت لطيفة في فاطمة، وهي تتذكر مشاعر الغيرة التي كانت تعتريهما معا.. لحظات تلو لحظات..
عندما ينجح ابن هذه، ويخفق ابن الثانية..
عندما تحظى ابنتها بعريس غني، والأخرى بفقير..
عندما تتمكن إحداهما من شراء بيت، بينما الأخرى ما زالت تكابد الكراء ومشاكل الجيران..
حين تتألق الواحدة منهما بلباس فخم أنيق، بينما لا تستطيع الأخرى توفير ملابس جديدة..
عندما تعلو النفس مشاعر إنسانية ممزوجة بخليط من الأحاسيس التي تكدر النفس، وتأكل صاحبها أكلا..
عندما تمتزج المحبة بمقارنة لامتناهية، ولا هي بالمتكافئة، بين شخصين قريبين حبيبين، بينهما دم وأواصر وروابط قوية، قد تنفصم بسبب مرحلي، له عمر وزمن معين..
وهما على مشارف الستين، ولديهما أحفاد، وقد ذهب كل في طريق يختلف عن الآخر..
طريق اختفى منه الكثير من الأشخاص، والأشياء..
غاب عنه من كان سببا في البغضاء..
من كنا نقارنهم ببعض، تركونا واختاروا دربا لا يجمعنا سوى في الأعياد والمناسبات..
ربما كانوا من قبل يسخرون منا، يستخفون بأفكارنا، بمقارناتنا اللامعقولة.. فهم في الأخير إخوة وليسوا أعداء..
تعتري السلفتان لحظات من ندم على ذكريات ضيعاها في أفكار سخيفة، وجزئيات تافهة.. كان الأحرى بهما استثمارها وعيشها بحلوها وتعبها، بأفراحها وأحزانها..
وكأن اللحظات الجميلة تأبى أن تكون حاضرة إلا في غياب من نحب..
يذهب الآباء والأمهات، الأجداد والجدات، وغصة في حلوقهم..
تلك الأماني الجميلة التي جاءت متأخرة وما حظوا بلحظة منها..
ذهبوا بآلام ما كان لهم يد فيها..
لعل ما حصل للسلفتين هو نتاج بيئة وموروث اجتماعي غطى على القلب والعقل وترك النفس على هواها..
ذهبت الأفعال وبقيت الجروح التي لا تندمل إلا بالنسيان والتجاوز والتماس الأعذار..
فهل تراهم يحفظون منها الجيل الناشئ، الذي غابت عنه أشياء، حتى يصفو قلبه، ويقف هذا النزيف..
بلغتا من العمر مبلغه.. وقد ضيعتا أجمله في سفاسف الأمور، ومشاحنات لا تنتهي..
انقطعت بسببهما أواصر، وانفصمت عرى، وخربت علاقات..
وكأن هذه الرحلة القصيرة من الحياة التي مضت كالومضة، تقطع كبديهما حسرة على ما فاتهما فيها..
على لحظات الفرح المتلألئة التي ما عاشاها ولا استمتعتا بها..
على السكن والطمأنينة التي افتقداها، وافتقدها من حولهما، بسبب تعنتهما وعدم تجاوزهما ولا تغافلهما عما يعتري النفس من مشاعر سلبية.
يلتقيان اليوم، والندم ينهشهما نهشا..
ربما متأخرتين..
ولكن هل ما زال في العمر بقية لإصلاح ما فات، وجبر ما انكسر؟
هل باستطاعتهما تجاوز الماضي، وتدارك الآتي بخلق المحبة من جديد بين الأبناء والأحفاد؟
ربما يقدم العمر لهما مزيدا من الأيام لتحقيق ذلك..
وربما لن يكون في العمر بقية لتجاوز الماضي وإعادة بناء المستقبل..
لكنها لحظة صفاء يجب أن يستثمراها، حتى لا تضيع بقية العمر.