حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة حَجَّة واحدة، وهي حَجة الوَداع، وكانت سنةَ عشر.
ولما عزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الحجِّ أعلم الناس، فتجهزوا للخروج معه، ووافاه في الطريق خلائقُ لا يُحصَون، فكانُوا مِن بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مدَّ البصر، وخرجَ من المدينة يوم السبت نهاراً بعد الظهر لِسِتٍّ بَقِينَ مِن ذي القِعْدةِ بعد أن صلَّى الظهرَ بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خُطبةً علَّمهم فيها الإحرام وواجباتِه وسننه.
إحرامه وإهلاله صلى الله عليه وسلم
ثم ترجَّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحُليفة، فصلَّى بها العصر ركعتين، ثم بات بها وصلَّى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، فصلَّى بها خمس صلوات، وكان نساؤه كُلُّهن معه، وطاف عليهن تِلك الليلة.
وقلَّد بُدنه نعلين، وأشعرَها 1 في جانبها الأيمن، فشقَّ صفحةَ سَنامِها، وسَلَتَ الدَّمَ عنها.
فلما أراد الإحرام اغتسل. وذكر الدارقطنى، عن عائشة قالت: “كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِمَ، غسل رأسه بخطمي وأُشْنَان . ثم طيَّبته عائشة بيدها بِذَرِيرَةٍ وطيبٍ فيه مسك في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص المِسك يُرى في مفارقه ولِحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلَّى الظهر ركعتين، ثم أهَلَّ بالحجِّ والعُمرة في مصلاه” 2.
ولبَّد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه بالغِسْل وهو بالغين المعجمة على وزن كِفلٍ وهو ما يُغسل به الرأس مِن خَطْمِيٍّ ونحوه يُلبَّدُ به الشعر حتى لا ينتشِر، وأهلَّ في مُصلاه بعدَ صلاةِ الظُّهر، ثم لبَّى فقال: “لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيك لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ”. ورفع صوتَه بهذه التلبيةِ حتى سَمِعَها أصحابُه، وأمرَهم بأمر اللَّه له أن يرفعُوا أصواتَهم بالتلبية، وأهلَّ أيضاً بعدما ركب ناقته، ثم أهلَّ لما استقلَّت به على البيداء.
ثم إنَّه صلى اللَّه عليه وسلم خيَّرهم عند الإحرام بين الأنساكِ الثلاثة: (القران، التمتع، الإفراد).
وكان حَجه على رَحْل وزَامِلتُه تحته.
وولَدَتْ أسماءُ بِنتُ عُميسٍ زوجةُ أبى بكر رضي اللَّه عنها بذي الحُليفة محمَّدَ بن أبى بكر، فأمرها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تغتسِلَ، وتَسْتَثْفِرَ بثوب، وتُحرم وتُهِلَّ.
مسيره صلى الله عليه وسلم إلى مكة
ثم سار رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُلبِّى بتلبيتِه المذكورةِ، والناسُ معه يزيدُون فيها ويَنقُصُون، وهو يُقِرُّهم ولا يُنكِرُ عليهم.
ولزم تلبيتَه، فلما كانُوا بالرَّوحاء، رأى حِمار وحْشٍ عَقيرا، فقال: “دَعوه فإنَّه يُوشِكُ أَنْ يَأتىَ صَاحِبُه”، فَجاء صَاحِبُه إلىَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولم يكن محرما، فَقَالَ: يا رسُولَ اللَّه، شَأْنَكُم بِهَذَا الحِمارِ، فَأَمرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ.
ثم مضى حتى إذا كان بالأُثَايةِ بين الرُّويثَةِ والعَرْجِ، إذا ظبيٌ حَاقِفٌ في ظِلٍّ فيه سهم لم يعرف صاحبه، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يَرِيبُه أحدٌ من الناس، حتى يُجاوِزوا.
ثم سار حتى إذا نزل بالعَرْجِ، وكانت زِمالتُه وزِمَالَةُ أبى بكر واحدة، وكانت مع غلام لأبى بكر، فجلس رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه، وعائشةُ إلى جانبه الآخر، وأسماءُ زوجته إلى جانبه، وأبو بكر ينتظِر الغلام والزمالة، إذ طلع الغلام ليس معه البعير، فقال: أين بعيرُك؟ فقال: أضللتُه البارحة، فقال أبو بكر: بعير واحد تُضِلُّه. قال: فَطفِق يضربُه ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبسَّم، ويقول: انظُروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنَعُ، وما يزيد رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم.
ثم مضى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالأبواءِ، أهدى له الصَّعبُ بن جَثَّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ وحشىٍّ، فردَّه عليه، فقال: “إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ”.
فلما مرَّ بوادى عُسْفَان قال: “”يا أبا بكر؛ أيُّ وادٍ هذا”؟ قال: وادى عُسْفان. قال: “لقد مَرَّ به هُودٌ وصَالِحٌ على بَكْرَيْنِ أَحْمَرَيْن خُطُمُهُما اللِّيفُ وَأُزُرُهُم العبَاءُ، وأرْدِيتُهُم النِّمارُ، يُلَبُّونَ يَحَجُّونَ البَيْتَ العَتِيقَ”” 3.
فلما كان بَسَرِفَ، حاضت عائشةُ رضي اللَّه عنها، وقد كانت أهلَّت بعُمْرة، فدخل عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهى تبكى، قال: “”ما يُبْكِيكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ”؟ قالت: نَعَمْ، قال: “هَذَا شيٌ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفي بالبَيْتِ””.
ثمَّ نهض صلى اللَّه عليه وسلم إلى أن نزل بذي طُوى، فبات بها ليلةَ الأحد لأربع خَلَوْنَ من ذي الحِجة، وصلَّى بها الصُّبح، ثم اغتسلَ مِنْ يومه، ونهض إلِى مكة، فدخلها نهاراً مِن أعلاها مِن الثنيَّة العُليا التي تُشْرِفُ على الحَجُونِ، ثم سار حتى دخلَ المسجد وذلك ضحىً.
طواف القدوم
وذكر الطبرانى: أنه كان إذا نظر إلى البيت يرفعُ يديه، ويُكبِّر ويقُول: “اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلام، اللَّهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً، وزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْريماً وتَشْريفاً وتَعْظيماً وبِرَّاً”.
فلما دخل المسجد، عَمَدَ إلى البيت ولم يركع تحيةَ المسجد، فلما حاذى الحجَر الأسود، استقبلَه واستلمه ولم يُزاحِمْ عليه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيتَ عن يساره، وطاف سبعة أشواط رمَل في الثلاثة الأول، وكان يُسرع في مشيه، ويُقارِبُ بين خُطاه، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على كتفه الأيسر، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، والمحجنُ عصا محنيَّة الرأس، وثبت عنه أنه قبله وسجد عليه، وقال: “الله أكبر”، وأنه أيضا استلم الركن اليماني، وكان يقول: “بسْم اللَّه واللَّه أكْبَر”.
وحُفِظَ عنه بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار وروى أبو داود أيضاً: مِن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: “طُفْتُ مَعَ عَبدِ اللَّه، فَلَّما حَاذَى دُبُرَ الكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلاَ تَتَعَوّذُ؟ قال: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النار، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الحَجَرَ، فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالبَابِ -(الملتزم)-، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِراعَيْهِ هَكَذا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطاً، وقَالَ: هَكَذَا رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.”
صلاته صلى الله عليه وسلم خلف مقام إبراهيم
فلما فرغ مِن طوافه، جاء إلى خلفِ المقام، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى، فصلَّى ركعتين، والمَقَامُ بينه وبينَ البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص. فلما فرغ من صَلاته، أقبل إلى الحجر الأسودِ، فاستلمه.
سعيه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة
ثم خرج إلى الصَّفا مِن الباب الذي يقابله، فلما قَرُب منه. قرأ: إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه“أبدأ بما بدأ اللَّه به”. ثم رَقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبلَ القِبلة، فوحَّدَ اللَّه وكبَّره، وقال. “لا إله إلا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئٍ قدير، لا إله إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه”. ثم دعا بين ذلك، وقال مِثلَ هذا ثلاثَ مرات.
ثم نزل إلى المروة يمشى، فلما انصبَّت قدماه في بطن الوادي، سعى حتَّى إذا جاوز الوادي وأَصْعَد، مشى.
وكان صلى اللَّه عليه وسلم إذا وصل إلى المروة، رَقِىَ عليها، واستقبل البيتَ، وكبَّر اللَّهَ ووحَّده، وفعل كما فعل على الصَّفا، وفعل ذلك سبع مرات وقف في كل من الصفا والمروة أربع مرات، فلما انتهى إلى المروة، أمرَ كُلَّ مَن لا هَدْى معه أن يَحِلَّ حتماً ولا بُدَّ، قارناً كان أو مفرداً، وأمرهم أن يَحِلُّوا الحِلَّ كُلَّهُ مِن وَطْءِ النِّساء، والطِّيب، ولُبس المخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التَّرْوِيَةِ، ولم يَحِلَّ هو مِن أجلِ هَدْيه. وهناك قال: “لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْري ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْيَ، وَلَجعَلْتُها عُمْرَةً”.
وهُناك دعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة. وهناك سأله سراقةُ بن مالك بن جُعْشُم عقيبَ أمره لهم بالفسخ والإحلال: هل ذلك لِعامِهم خاصة، أم للأبد؟ فقال: “بَلْ لِلأبد”.
يوم التروية
وكان يُصلِّى مدة مُقَامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازِل فيه بالمسلمين بظَاهِر مكَّة، فأقام بظاهر مكة أربعةَ أيَّام يَقْصُرُ الصَّلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يومُ الخميس ضُحىً، توجَّه بمن معه مِن المسلمين إلى مِنَى، فأحرم بالحجِّ مَنْ كان أحلَّ منهم مِن رحالهم، فلما وصل إلى مِنَى، نزل بها، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ، وبات بها، وكان ليلةَ الجمعة.
يوم عرفة
فلما طلعتِ الشمسُ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضبٍّ، وكان مِن أصحابه الملبِّي، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، وهي قرية شرقى عرفات، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادي من أرض عُرَنَةَ.
فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التي اتفقت المِللُ على تحريمها، وهى الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب اللَّه، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بَلَّغَت وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد اللَّهَ عليهم ثلاثَ مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم.
وموضعُ خُطبته لم يكن من الموقف، فإنه خطب بِعُرَنَة، وليست من الموقف، وهو صلى الله عليه وسلم نزَل بِنَمِرَةَ، وخطب بِعُرَنَة، ووقف بِعَرفَة، وخطب خُطبة واحدة، ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها، أمَرَ بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يومَ الجمعة، ثم أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة، وصلُّوْا بصَلاتِه قصراً وجمعاً، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع.
فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف في ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: “وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ”.
وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: “الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فى يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه”.
وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف: “اللَّهُمَ لَكَ الحَمْدُ كالَّذِي نَقُولُ، وخَيْراً مِمَّا نقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتي وَنُسُكي، ومَحْيَايَ، ومَمَاتِي، وَإليكَ مَآبي، ولَكَ ربِّى تُراثي، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِيء به الرِّيحُ” 4.
ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك أيضا: “اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كَلامي، وتَرَى مَكَاني، وتَعْلَمُ سرِّى وعَلانيتي، لا يخفى علَيْكَ شَيٌ مِنْ أَمْري، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبي، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تَجْعلني بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بي رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ” 5.
وذكر الإمام أحمد: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: كان أكثرُ دُعاءِ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفة: “لا إله إلاَّ اللَّهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئ قَدِير”.
وذكر البيهقيُّ من حديث علىّ رضي اللَّهُ عنه، أنه صلَّى اللَّه عليه وسلم قال: “أَكْثَرُ دُعائي ودُعاءِ الأَنْبيَاء مِنْ قَبْلي بِعَرَفَةَ: لا إله إلاَّ اللَّه وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِير، اللَّهُمَّ اجْعَل في قَلبي نُوراً، وفى صَدْري نُوراً، وفى سَمْعي نُوراً، وفى بَصَري نُوراً، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لي صَدْرِي، ويَسِّرْ لي أَمْري، وأعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْواسِ الصَّدْرِ، وشَتَات الأمْر، وفِتْنةِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ في اللَّيْل، وشَرِّ ما يَلِجُ في النَّهارِ، وشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّياحُ، وشَرِّ بَوائِق الدَّهْر”.
وهناك أُنزِلَتْ عليه: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً.
وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرِم فمات، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُكفَّنَ في ثَوْبَيْهِ، ولا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وأن يُغَسَّل بمَاءٍ وَسِدْرٍ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا وَجْهُهُ، وأَخْبَرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّى.
مسيره صلى الله عليه وسلم إلى مزدلفة
فلما غربت الشمسُ، واستحكم غروبُها بحيثُ ذهبت الصُّفرة، أفاض من عرفة، وأردف أُسامةَ بنَ زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمَّ إليه زِمام ناقتِه، حتى إن رأسَها ليُصِيبُ طَرَفَ رَحْلِهِ وهُو يقول: “أَيُّهَا النَّاسُ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَةَ، فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاع”. أي: ليس بالإسراع. وأفاض من طريق المَأزِمَيْن.
ِثم جعل يسيرُ العَنَقَ، وهو ضربٌ من السَّير ليس بالسَّريعِ، ولا البَطيء. فإذا وجد فَجْوةً وهو المتَّسعُ، نَصَّ سيره، أي: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوةً من تلك الرُّبى، أرخى للناقة زِمامها قليلاً حتى تصعد.
وكان يُلبِّي في مسيره ذلك، لم يقطع التلبيةَ. فلما كان في أثناء الطريق، نزل صلواتُ اللَّهِ وسلامه عليه، فبال، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة: الصلاة يا رَسول اللَّه، فقال: “الصلاة – أو المُصَلَّى – أَمَامَك”.
ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصَّلاة، ثم أمر بالأذان، فأذَّن المؤذِّنُ، ثم أقام، فَصَلَّى المغربَ قبل حطِّ الرِّحَال، وتبريكِ الجمال، فلما حطُّوا رِحالهم، أمر فأقيمتِ الصَّلاةُ، ثم صلَّى عِشاء الآخِرة بإقامة بلا أذان، ولم يُصلِّ بينهما شيئاً. ثم نام حتى أصبح.
“وأَذِنَ في تلك الليلة لِضعفةِ أهلِه أن يتقدَّمُوا إلى مِنَى قَبْلَ طُلوعِ الفجر، وكانَ ذلك عِند غيبوبةِ القَمَرِ، وأمرهم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تطلُعَ الشَّمسُ” 6.
يوم النحر
فلما طلع الفجرُ، صلاَّها في أول الوقت بأذان وإقامة يومَ النحر، وهو يومُ العيد، وهو يومُ الحجِّ الأكبر، وهو يومُ الأذان ببراءة اللَّه ورسولِه مِن كُلِّ مشرك.
ثم ركِبَ حتى أتى موقِفَه عند المَشْعَرِ الحَرَامِ، فاستقبل القِبْلة، وأخذ في الدُّعاء والتضرُّع، والتكبير، والتهليلِ، والذِّكرِ، حتى أسفر جدّاً، وذلك قبلَ طُلوع الشمس.
وهنالك سأله عُرْوَةُ بنُ مُضَرِّس الطَّائي، فقال: يا رسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طيِّءٍ، أكْلَلْتُ رَاحِلتي، وأتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ شَهِدَ صَلاتَنَا هذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وقَفَ بعَرَفَةَ قَبْلَ ذلِكَ ليلاً أوْ نَهاراً، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّه، وقَضى تَفَثَه” 7.
وقف صلى اللَّه عليه وسلم في موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كُلَّها موقف، ثم سار مِن مُزْدَلِفَةَ مُرْدِفاً للفضل بن العباس وهو يُلبِّى في مسيره، وانطلق أُسامةُ بن زيد على رجليه في سُبَّاقِ قُريش.
مسيره صلى الله عليه وسلم إلى منى
وفى طريقه ذلك أمر ابنَ عباس أن يَلْقُطَ له حَصى الجِمار، سبعَ حصياتٍ، فالتقط له سبع حصيات مِنْ حَصَى الخَذْفِ، فجعل يَنْفُضُهُنَّ في كَفِّهِ ويَقُولُ: “بأَمْثَال هؤلاء فارْموا، وإيَّاكُم والغُلُوَّ فى الدِّين، فإنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ في الدِّين”.
وفى طريقه تلك، عَرَضَتْ له امرأةٌ مِن خَثْعَمَ جَمِيلةٌ، فسألته عن الحجِّ عَنْ أبيها وَكانَ شَيْخاً كَبِيراً لا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فأَمَرَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، وجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَصَرَفَهُ إلَى الشِّقِّ الآخَرِ،
وسأله آخرُ هنالك عن أُمِّه، فقال: إنَّها عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فإن حَمَلْتُها لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وإنْ رَبَطْتُها خَشِيتُ أنْ أَقْتُلَها، فَقَالَ: “”أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ”؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: “فَحُجَّ عنْ أُمِّكَ””.
فلما أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، حَرَّك ناقتَه وأسرع السَير، وهذه كانت عادتَه في المواضع التي نزل فيها بأسُ اللَّهِ بأعدائه، فإن هُنالِكَ أصابَ أصحابَ الفيل ما قصَّ اللَّه علينا، ولذلك سُمِّي ذلك الوادي واديَ مُحَسِّر، لأن الفيل حَسَرَ فيه، أي: أعيى، وانقطع عن الذهاب إلى مكة، وكذلك فعل في سُلوكه الحِجْرَ دِيارَ ثمود، فإنه تقنَّع بثوبه، وأسرع السَّيْرَ.
رميه صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة
وسلك صلى اللَّه عليه وسلم الطريقَ الوُسطى بين الطريقين، وهى التي تخرُج على الجمرة الكُبرى، حتى أتى مِنَى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفلِ الوادي، وجعل البَيْتَ عن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، واستقبلَ الجمرةَ وهو على راحلته، فرماها راكباً بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حصاةٍ، وحينئذ قطع التلبية.
وكان في مسيره ذلك يُلَبِّى حتى شرع في الرمي، ورمى وبلالٌ وأُسامةُ معه، أحدهما آخِذٌ بِخِطام ناقته، والآخر يُظلِّلُه بثوب من الحر.
خطبته صلى الله عليه وسلم في منى يوم النحر
ثم رجع إلى مِنَى، فخطب الناسَ خُطبة بليغة أعلمهم فيها بحُرمة يومِ النحر وتحريمه، وفضله عند اللَّه، وحُرمة مكةَ على جميع البلاد، وأمرهم بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ لِمَن قَادَهُم بِكِتَابِ اللَّهِ، وأَمَرَ النَّاسَ بِأخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنه، وقال: “لَعَلِّى لا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هذا”.
وعلَّمهُم مناسكهم، وأنزلَ المهاجرين والأنصار منازلَهم، وأمرَ الناسَ أن لا يَرْجعُوا بَعْدَهُ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُهُم رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وأَخْبَرَ أَنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ.
وقال في خطبته: “لا يَجْنى جَانٍ إلا على نَفْسِه”.
ولقد قال عبدُ اللَّهِ بن عمرو: “ما رأيتُه صلى اللَّه عليه وسلم سئِلَ يومئذٍ عن شيء إلا قال: ((افْعَلُوا وَلاَ حَرَجَ))”.
وأنزل المهاجرين عن يمين القِبْلة، والأنصارَ عن يسارها، والناسُ حولهم، وفتح اللَّه له أسماعَ الناس حتى سمعها أهلُ مِنَى في منازلهم.
نحره صلى الله عليه وسلم الهدي
ثم انصرف إلى المَنْحَرِ بمِنَى، فنحر ثلاثاً وستين بَدَنَة بيده، وكان ينحرُها قائِمةً، معقولةً يدُها اليُسرى. ثم أمسك وأمر علياً أن يَنْحَرَ ما غبر من المائة، ثم أمر علياً رضي اللَّه عنه، أن يتصدقَ بِجلالِها ولُحومِها وجُلودِها في المساكين، وأمره أن لا يُعِطىَ الجَزَّار في جِزَارتِها، شيئاً منها، وقال: نَحْنُ تُعْطِيهِ مِن عِنْدِنَا، وقَالَ: “”مَنْ شاءَ اقْتَطَعَ”. وأعلمهم “أن مِنَى كُلَّها مَنْحَرٌ، وأَنَّ فِجاجَ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ””.
تحلله صلى الله عليه وسلم
في حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه.
فلما أكملَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نحره، استدعى بالحلاَّق، فحلق رأسه، فَقَالَ لِلحلاَّق – وهو مَعْمر بن عبد اللَّه وهو قائم على رأسه بالموسى ونَظَر في وَجْهِهِ – وقَالَ: “”يَا مَعْمَرُ؛ أَمْكَنَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَفى يَدِكَ المُوسَى” فَقَالَ معمر: أمَا واللَّه يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ ذلك لَمِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَىَّ ومَنِّهِ، قَالَ: “أَجَلْ إذاً أَقَرُّ لَكَ”” 8.
فقال للحلاق: “خُذْ، وأَشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فَلما فَرَغَ مِنْه، قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيه، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الحَلاَّق، فَحَلَقَ جَانِبهُ الأيْسَر، ثُّمَّ قالَ: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه” 9.
ودعا للمحَلِّقِينَ بالمغْفِرَةِ ثَلاثاً، وَلِلمُقَصِّرِين مَرَّةً، وحلق كثيرٌ من الصحابة، بل أكثرُهم، وقصَّر بعضُهم.
إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى مكة
ثم أفاض صلى اللَّه عليه وسلم إلى مكة قبل الظهر راكباً، فطاف طوافَ الإفَاضَةِ، وهو طوافُ الزِّيَارةِ، وهو طَوافُ الصَّدَر.
ثمَّ أتى زمزمَ بعد أن قضى طوافَه وهم يسقون، فقال: “لَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُم النَّاسُ، لنَزَلْتُ فَسَقَيْتُ مَعَكُمْ” ثُمَّ ناولُوه الدَّلْوَ، فَشَربَ وهُوَ قَائِم.
رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مِنَى ورميه الجمرات
ثم رجع صلى اللَّه عليه وسلم إلى مِنَى مِن يومه ذلك، فباتَ بها، فلما أصبَحَ، انتظرَ زوالَ الشَّمْسِ، فلما زالت، مشى مِن رحله إلى الجمَارِ، ولم يَرْكَبْ، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مَسْجِدَ الخَيْفِ، فرماها بسبع حَصَياتٍ واحدةً بعدَ واحدةٍ، يقول مع كُلِّ حصاة: “اللَّهُ أكْبَرُ”، ثم تقدَّم على الجمرة أمامها حتى أسهلَ، فقام مستقبلَ القِبْلة، ثم رفعَ يديهِ وَدَعَا دُعاءاً طَوِيلاً بقدر سُورَةِ البقرة، ثم أتى إلى الجَمرة الوُسطى، فرماها كذلك، ثم انحدرَ ذاتَ اليَسارِ مما يلي الوادي، فوقفَ مستقبِلَ القِبْلة رافعاً يديه يدعو قريباً مِن وقُوفِه الأولِ، ثم أتى الجمرَة الثَّالِثَة وهي جمرة العَقبة، فاستبطن الوادي، واستعرض الجَمرة، فجعل البَيْتَ عَن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك. فلما أكمل الرمي، رجع مِن فوره.
خطبه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج
وخطب صلى اللَّه عليه وسلم الناس بمِنَى خطبتين: خطبةً يوم النحر وقد تقدَّمت، والخطبَة الثانية: في أوسط أيَّامِ التشريق، فقد ذكر البيهقي، من حديث موسى بن عُبيدة الرّبَذِي، عن صدقة بن يسار، عن ابنِ عمر، قال: أُنْزِلَتْ هَذِه السُّورَةُ: إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ، على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في وسط أيَّامِ التشريقِ، وعُرِفَ أنه الوداعُ، فأمر براحلته القَصْواء، فَرُحِلَتْ، واجتمع الناسُ فقال: “يا أيها النَّاسُ”… ثم ذكر الحديث في خطبته.
وفي حديث سَرَّاء بنت نبهان، قالت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: “”أتدرون أيُّ يَوْمٍ هذَا”؟ -قَالَت: وهُو اليَوْمُِ الَّذي تَدْعُونَ يَوْمَ الرُّؤوس- قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “هذَا أوْسَطُ أيَّامِ التَّشْريقِ، هَلْ تَدْرُونَ أيُّ بَلَد هذَا”؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: “هذَا المَشْعَرُ الحَرَامُ”، ثُمَّ قَال: “إنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عامي هذَا، ألاَ وَإنَّ دمَاءَكُم، وأَمْوالَكُم، وَأَعْرَاضَكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذَا، في شهركم هذا، في بَلَدِكُمْ هذَا، حَتَّى تَلْقُوْا رَبَّكم، فَيَسْأَلَكُم عَنْ أَعْمالِكُم، ألاَ فَلْيُبَلِّغْ أَدْنَاكُم أقصاكم، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ”؟” 10. ويوم الرؤوس: هو ثاني يوم النحر بالاتفاق.
واستأذنه العباسُ بنُ عبد المطلب أن يَبيت بمكة ليالي مِنَى مِن أجل سقايته، فأذن له.
واستأذنه رِعاءُ الإبِلِ في البيتوتة خارِجَ مِنَى عند الإبل، فأرخص لهم أن يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثم يَجْمَعُوا رمىَ يومين بَعْدَ يوم النحر يرمُونَه في أحدهما.
ثم إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى مكة
ولم يتعجل صلى اللَّه عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتَّى أكمل رمىَ أيامِ التشريق الثلاثَةَ، وأفاض يومَ الثلاثاء بعد الظهر إلى المُحَصَّبِ، وهو الأبطح، وهو خَيْف بنى كِنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قُبَةً هناك، دون أن يأمرَه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلَّى الظُّهر، والعصرَ، والمغربَ، والعِشاء، ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلاً سحراً، لم يَرْمُلْ في هذا الطَّوافِ.
وأخبرت صفية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها حائض، فقال: “”أحَابِسَتُنا هي”؟ فقالُوا له: إنها قَدْ أَفَاضَتْ قال: “فَلْتَنْفِرْ إذاً””. ورَغِبَتْ إليه عائشةُ تلك الليلة أن يُعْمِرَها عُمرةً مفردَة، فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأَ عن حجِّها وعُمرتها، فأبت إلا أن تعتمِرَ عُمرة مفردة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يُعْمِرَها مِن التنعيم، فَفَرَغَتْ مِن عُمرتها لَيلاً ثمَّ وافَتِ المُحَصَّبَ مَعَ أخيها، فأتيا في جَوْفِ الليلِ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: “”فَرَغْتُمَا”؟ قالت: نَعَمْ، فنادَى بالرَّحِيل في أصحابه، فارتحلَ الناسُ، ثم طافَ بالبيت قبلَ صَلاةَ الصُّبح” 11.
رحيله صلى الله عليه وسلم إلى المدينه المنورة
ثم ارتحل صلى اللَّه عليه وسلم راجعاً إلى المدينَةِ، فلما كانَ بالرَّوحَاءِ، لقى ركباً، فسلَّم عليهم، وقال: “”مَنِ القَوْمُ”؟ فَقَالُوا: المُسْلِمُونَ، قالوا: فَمَنِ القَوْمُ؟ فَقَالَ: “رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم”، فَرَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبياّ لَهَا مِنْ مِحفَّتِها، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلِهَذَا حَج؟ قال: “نَعَمْ، ولَكِ أَجْرٌ””.
فلما أتى ذَا الحُلَيْفَةِ، باتَ بِهَا، فَلَمَّا رَأى المَدِينَةَ، كَبَّرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وقال: “لا إله إلاَّ اللَّهُ وًَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شَيٍ قَدِير، آيبِوُن تَائِبونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنا حَامدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه”. ثم دخلها نهاراً مِن طَرِيق المُعَرَّسِ، وخَرَج مِن طرِيق الشَّجَرَةِ. واللَّه أعلم.
[2] أُشْنَان: أعشاب كانت تستعمل للغسل.
[3] ذكره الإمام أحمد في المسند.
[4] ذكره الترمذي.
[5] ذكره الطبراني.
[6] حديث صحيح صححه الترمذي وغيره.
[7] قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[8] ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه اللَّه.
[9] هكذا وقع في صحيح مسلم.
[10] رواه أبو داود.
[11] هذا لفظ البخاري.