“هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا” [1].
ملخص الغزوة كما جاء في كتب السيرة [2]
كان سبب الغزوة أن قريشا نقضت بندا من بنود صلح الحديبية بمشاركتها في غارة بني بكر، التي كانت في عهدها، على قبيلة خزاعة التي كانت تحت عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فأرادت قريش تجديد الصلح مع المسلمين. فاختارت أبا سفيان بن حرب لهذه المهمة لحكمته، ولمصاهرته لرسول صلى الله عليه وسلم. وتحكي كتب السيرة أحداث هذه الزيارة المحرجة، وكيف أن أبا سفيان لم يلق ترحيبا من أحد. حتى ابنته أم المؤمنين السيدة حبيبة حين دخل بيتها طوت عنه فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أراد الجلوس عليه. فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر.
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن غلام يدب بين يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبا، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
بعد هذه الزيارة الفاشلة في تجديد الصلح أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة. وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن إضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ، ليظن الظان أنه صلّى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت، بلغها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته..
حتى نزل بمر الظهران، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه…
وفي صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هــ، غادر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة…
مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى ذي طوى، وكان يضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل…
دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، المسجد فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ، والأصنام تتساقط على وجوهها.
نبقي هذه الأحداث في أذهاننا، ونقف لنتأمل موقفين عظيمين للمصطفى صلّى الله عليه وسلم مع شخصيتين بارزتين في هذه الغزوة لا تكاد تذكر غزوة الفتح دونهما.
الأول: الصحابي حاطب بن أبي بلتعة
من هو حاطب بن أبي بلتعة؟
جاء عنه في سير أعلام النبلاء أنه عمرو بن عمير بن سلمة، اللخمي المكي، حليف بني أسد بن عبد العزى بن قصي .من مشاهير المهاجرين، شهد بدرا والمشاهد. وكان تاجرا في الطعام، له عبيد. وكان من الرماة الموصوفين .
وفي صحيح مسلم: أن عبدا لحاطب شكا حاطبا فقال: يا نبي الله، ليدخلن النار! قال: كذبت، لا يدخلها أبدا وقد شهد بدرا والحديبية ” [3].
ويحكي ابن سيد الناس عن حكمته وقدرته على الإقناع “قَالَ حَاطِبٌ لِلْمُقَوْقِسِ لَمَّا لَقِيَهُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الأَعْلَى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى، فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ، وَاعْتَبِرْ بِغَيْرِكَ وَلا يُعْتَبَرُ بِكَ. قَالَ: هَاتْ، قَالَ: إِنَّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إِلَّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَهُوَ الإِسْلامُ الْكَافِي بِهِ اللَّهُ فَقَدْ مَا سِوَاهُ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا النَّاسَ فَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ يَهُودُ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النَّصَارَى، وَلَعَمْرِي ما بشارة موسى بعيسى بن مَرْيَمَ إِلَّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا دُعَاؤُنَا إِيَّاكَ إِلَى الْقُرْآنِ إِلَّا كَدُعَائِكَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ إِلَى الإِنْجِيلِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، فَالْحَقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَأَنْتَ مِمَّنْ أَدْرَكَ هَذَا النَّبِيَّ، وَلَسْنَا نَنْهَاكَ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّا نأمرك به..” [4].
“ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، وقال: إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ قلت: بلى هو رسول الله. قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال: فقلت: عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، إلا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم..” [5].
هذا الصحابي الجليل الحكيم المفوه أخطأ خطأ عظيما إن وزناه بموازيننا الحالية، وعقابه في قوانين زماننا القتل مباشرة لأنه يعتبر من الخيانة العظمى.
وقصة هذا الخطأ كما جاء في كتب السيرة؛ أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا … وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والمقداد … فأتيا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاطبا، «هل تعرف الكتاب؟» قال: نعم. قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، لكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريباً فيهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره.
فقام عمر بن الخطاب فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر! لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
عفا عنه رسول الله إذن دون تقريع ولا تأنيب ولا عقوبة. صدقه وعذره بكل بساطة، بكل رحمة، بكل تفهم، فصلى الله على الرؤوف الرحيم.
ثم جاءت بشارة الله تعالى له بالإيمان، وأنزل سبحانه في شأنه الآيات الأربع الأولى من سورة الممتحنة توجهه وترشده، هو وجميع المؤمنين معه وبعده إلى أن تقوم الساعة، إلى كيفية التعامل الحق مع أعداء الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ الآيات.
ولقد استخرج علماؤنا رضي الله عنهم من هذه القصة فقها كثيرا، منه ما قاله الإمام الطبري: “.. إذا ظهر من رجل من أهل الستر على أنه قد كاتب عدوًا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات؛ فجائز العفو عنه، كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما اطلع عليه من فعله. وهذا نظير الخبر المروي عن عائشة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ” [6].
ولقد عمل الخلفاء الراشدون بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فاستعمل سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى الخلافة حاطبا فيما كان قد استعمله المصطفى من قبل، وبعثه مرة أخرى إلى المقوقس، ليجدد الدعوة إلى الإسلام، ويدعوهم إلى المسالمة، ونجح حاطب مرة أخرى في سفارته، ولم يزل أهل مصر على العهد حتى فتحها عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وسيدنا عمر رضي الله عنه الذي كان يتعجل قتل حاطب كما رأينا، حين ولي أمر المسلمين أصبح له موقف آخر أكثر حلما واتزانا: يروى أنه “بلغه أن عامله على البحرين أُتي برجلٍ قامت عليه بينة أنه كاتب عدوًّا للمسلمين بعورتهم – وكان اسمه: أضرباس – فضرب عنقه وهو يقول: يا عمر، يا عمراه. فكتب عمر إلى عامله فقدم عليه فجلس له عمر وبيده حربة، فلما دخل عليه علا لجبينه بالحربة وجعل يقول: أضرباس لبيك، أضرباس لبيك. فقال له عامله: يا أمير المؤمنين، إنه كاتبهم بعورة المسلمين وهمّ أن يلحق بهم. فقال له عمر: قتلته على هذه، وأينا لم يهم، لولا أن تكون سيئة لقتلتك به” [7].
الثاني: الصحابي أبو سفيان بن حرب
هو “صَخْرُ بنُ حَرْبِ بنِ أُمَيَّةَ بنِ عَبْدِ شَمْسِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ… مِنْ دُهَاةِ العَرَبِ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالشَّرَفِ فِيْهِمْ” [8].
كان لأبي سفيان منذ البعثة النبوية مواقف مسيئة ومحاربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يكن لقريش موقف ضد رسول الله إلا كان أبو سفيان حاضرا ومشاركا في الكيد للرسول بل ومتزعما كما سنرى.
– قبيل الهجرة كان أبو سفيان في قائمة المخططين في دار الندوة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
– بعد الهزيمة النكراء لقريش في غزوة بدر فكر “في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه … فخرج في مائتي راكب … حتى نزل بصدْر قَناة إلى جبل يقال له: ثَيبٌ، من المدينة على بَرِيد أو نحوه … فبعث مفرزة منهم فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها: العُرَيض، فقطعوا وأحرقوا هناك أصْوَارًا من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة” [9].
– بعد غزوة أحد، والتي كان فيها من أشد المؤلبين على المسلمين، وقتل فيها سبعون من خيرة الصحابة قال: “قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني” [10].
– في غزوة الخندق جيش الجيوش وجمع الأحزاب لإبادة المسلمين، بلغ عدد المحاربين “… عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ. ولو بلغت هذه الأحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة، لكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس، وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء…” [11].
ذكرنا هذه الأحداث كلها – وغيرها كثير – لنحاول تخيل ماذا يمكن أن يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الشخصية لو ظفر بها؟
وشاءت أقدار الله تعالى أن يخرج أبو سفيان من مكة يتفقد أخبار المسلمين في نفس الليلة التي وصل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضواحيها، والقصة ترويها كتب السيرة، الذي يهمنا أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أجار أبا سفيان حتى لا يمسه المسلمون بسوء، فكان الحوار التالي بينه وبين رسول الله: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟!” قال: بأبي أنت وأمي، ما أكرمك وأحلمك وأوصلك! لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئًا. قال: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!” قال: بأبي وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! هذه والله كان في النفس منها شيء حتى الآن. قال العباس: ويحك يا أبا سفيان! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن يُضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق وأسلم. قال العباسُ رضيَ اللهُ عنه فقلتُ: يا رسولَ اللهِ إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ يُحبُّ هذا الفخرَ فاجعلْ له شيئًا، قال: نعم، من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ، ومن أغلق عليه بابَه فهو آمِنٌ. فلما ذهبتُ لأنصرفَ قال: يا عباسُ احبِسْه بمَضِيقِ الوادي عند حطيِمِ الجندِ حتى يمرَّ به جنودُ اللهِ فيراها” [12] “وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا. فلما حاذى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان قال:
يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ فقال: كذا وكذا. .. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد” [13].
فكان استغرابه كبيرا من الأعداد الكثيرة من المسلمين وهم في نظام تام حسب قبائلهم، فما كان منه إلى أن قال للعباس رضي الله عنه: “ما لأحدٍ بهؤلاءِ قِبِلٌ، واللهِ يا أبا الفضلِ لقد أصبح ملكُ ابنِ أخيك الغداةَ عظيمًا، قال: قلتُ ويلك يا أبا سفيانَ إنها النبوةُ، قال: فنعم”.
قَبِلَ إسلامه وأعطاه مزية لم يعطها لغيره، وغير رأس الكتيبة لإرضائه، ويوم حنين أعطاه أربعين أوقية ومائة من الإبل، ولم يؤاخذه بشيء مما اقترفت يداه قبل إسلامه. فأي رحمة وأي حلم صلى الله عليه وسلم
قد يتساءل سائل لماذا لم يقتل الرسول صلى الله عليه أبا سفيان عندما ساقه الله إليه، وقد قتل من قبل رفاقه من أمثال عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث (قتلهم بعد بدر ولم يقبل فيهم فداء)؟ والجواب أنه قتلهم عبرة لغيرهم من باقي الكفار المحاربين وليبين قوة المسلمين، أما وقد ثبت له الأمر ونصره الله على أعدائه وأصبح في موقف القوة وعدوه في موقف الضعف؛ عفا عنه. ومن شيمه صلى الله عليه وسلم العفو عند المقدرة. وما يؤكد لنا هذا، عفوه صلى الله عليه وسلم على من أهدر دماءهم في هذا اليوم العظيم ممن استأمن لهم، من أمثال عكرمة بن أبي جهل وابن أبي السرح وغيرهم.
ولقد ود رسول الله لو يدخل جميع أمته الجنة ولا يعذب منهم أحد، حتى المنافقون منهم، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال: لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله ! أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا، كذا وكذا، أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين فغفر له لزدت عليها، قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف” [14].
فصلى الله على الرحمة المهداة للعالمين وسلم تسليما. والحمد لله رب العالمين.
[1] زاد المعاد، ابن قيم الجوزية، ج 2، ص 160.
[2] الرحيق المختوم، المباركفوري، من ص 333 فما بعدها.
[3] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر، وقصة حاطب بن أبي بلتعة، رقم الحديث 2495.
[4] كتاب عيون الأثر، ابن سيد الناس، ج 2، ص 332.
[5] البداية والنهاية، ابن كثير ، ج 4، ص 216.
[6] شرح صحيح البخاري، لابن بطال، ج 5، ص 162.
[7] شرح صحيح البخاري، لابن بطال، ج 5، ص 163.
[8] سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 106.
[9] الرحيق المختوم، ص 282.
[10] المصدر نفسه، ص 327.
[11] المصدر نفسه، ص 357.
[12] البداية والنهاية لابن كثير، ج 4، ص 539.
[13] الرحيق المختوم، ص 477.
[14] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين 1366.