طغى على الصلات الإنسانية التعقيد، وفرقت وشائجها حواجز التكلّف والكلفة، حتى صار الفرد يحسب ألف حساب؛ حين يهم بطرق باب جاره ليسأل عن حاله، هل يقدم أم يعود أدراجه، إذ لم تعد سهولة التواصل والوصال متاحة دائما، وأصبح الأمر غير مرحب به كما كان في زمن قريب، حيث كانت تلتقي الجارات في لحظات متعددة في اليوم الواحد، ولعل أطيب أماكن الوصال كان فوق سطح العمارة، الذي كان متعدد الوظائف، من مثيل تجفيف الغسيل، وتنظيف القمح.
مكان تجتمع فيه القلوب قبل الأجساد، يتجاذبن فيه أطراف الحديث عن هموم أشغال البيت، وعن هرج الصغار ومتطلباتهم، فضلا عن أحوال دراستهم، وكل ذلك في هنيهة وجيزة، لتعدن الكرة في لمّة شاي بسيطة، تعقد في يوم محدد ما بعد صلاة العصر، يتقاسمن وصفات الطبخ والتجميل، وربما حللن العديد من مشاكل السكن المشترك، واقترحن أفكارا لتنظيم أوقات الحركة والسكون، وفي أوقات مناسبة أخرى كن ينشطن في تزيين العمارة بغراس الزينة، والتعاون في الطبخ إذا استقبلت إحداهن ضيوفا، أما مساء فكل واحدة منهن تحمل أطباقا فيها ما لذّ وطاب، تتقاسمها مع صويحباتها بكل حب وامتنان، كل تلك الخطط كانت تسطر، وتنضم لها الجارات ضمن حديث سطح العمارة.
هل بقيت العلاقة ذاتها اليوم؟ ماذا تغير لتتغير أحوالنا وتتقلص دائرة علاقتنا بالجيران؟
كبر الصغار ومرت السنون، وأصبحنا في حال غير الحال؛ انقطعت دوائر الوصل، وحلت محلها بوادر الهجر والتقصير، فأصبحت كل جارة منغمسة في مسؤوليتها الأسرية وهمومها، وغابت معاني العيش المشترك، بما فيها مقاصد الأمكنة الجميلة التي طالما كانت تمتح بقيم التكافل والتآزر.
لم يعد ذاك السطح كما السابق؛ يضج بالحياة المرحة السعيدة، كما لم يعد لجاراتنا حضور، نعم غابت المعاني الجميلة وفقدت معها تلك الوجوه المستبشرة، وأصبح عنوان العلاقة الجديدة هو “التيقار”، بديل جديد للتقارب واللحمة والمودة.
بعدما كان السطح دافئا بالمشاعر الإنسانية، أصبح باردا مهجورا، استُغني عنه باستخدام الشرف الخاصة، لتفادي التواصل والتقاء جارات اليوم.
غاب حديث السطح، وصرن لا يلتقين إلا لماما في باب العمارة، بالكاد يدور بينهن حديث مقتضب، تطغى عليه الكلفة والصيغة الرسمية، فباتت صويحبات الأمس أغرابا اليوم، بعد أن كن يشكلن نسيجا واحدا، فقدت علاقة الجوار كنهها الإنساني وعمقها القيمي الأخلاقي.
لا غرو هناك فجوة ما!! هي أساس هذا التنافر والتباعد؛ أسهمت في توسيع ذاك الشرخ النفسي، الذي أحدث هذا الانقلاب على المستوى العلائقي، بعد تطبع النفوس بطباع الريبة والشك والحذر وسوء الظن، ليصبح بالكاد لا يجمع بين جيران العمارة إلا الجدران والأسقف الإسمنتية، وبذلك تبددت آثار ذاك الوقت المبارك، وانتفت خيريته على واقع الناس بالعمارة، فتقبل الآخر والتماس الأعذار اختفى من قاموس الجيران، وخصلة العتاب المحبب في فك خيوط المشاكل، لم تصر محبذة ومرغوبة.
والسؤال الملح أمام هذا الواقع هو؛ كيف نعيد لعلاقات الجوار دورها الريادي في بناء المجتمع وتماسكه؟ وما هي سبل تعميق أواصر الإخاء والمحبة بين الجميع؟ ماهي الرؤية القاصدة التي لو تمثلت كمنهاج حياة، لكسرت الحواجز النفسية والذهنية، التي ربما رسختها ندرة اللقاءات وقلة التواصل والحوار وغيرها؟
هناك شرخ ما أحدث هذا الانقلاب في هذه العلاقة المتفردة، ينبغي أن يسد بحلول ناجعة، تستقى من مرجعيتنا، ومن نصوصنا المؤسسة للرفع من منظومة القيم في المحيط الاجتماعي.