الإنسان كائن اجتماعي بطبعه يعيش في مجموعات، وقد يستوحش إن بقي منفردا، فهو لا يستطيع أن يعيش منعزلا في صحراء نائية، أو فوق جبال عالية، أو في فلاة أو قفار، فالعلاقة مع الآخرين ضرورة حتمية، وحياته وسعادته لا تكتمل إلا بمجتمع وتواصل، فلابد له من صلة بمن حوله من بني جنسه ليسعد ويهنأ.
آية الحقوق العشرة
إن الإنسان بفطرته التي خلقه الله عليها يعيش في أحياء وتجمعات سكنية، يحيط به الجيران من كل جانب. والإسلام لكي يبني مجتمعا متماسكا متكاملا جعل لنا حقوقا للجيران لتنظيم العلاقات وزرع الرحمة، وعلمنا كيف نعيش ونتعايش كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما ورد في الحديث.
قال تعالى في محكم كتابه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء: 36].
والمقصود بالجار الجنب في الآية الجار الغريب الأجنبي عنك، لا تصلك به رابطة القرابة، وقيل الجار اليهودي والنصراني، وقيل الرفيق في السفر، والصاحب بالجنب، قيل هي الزوجة، أو الرفيق الصالح، والصاحب في السفر والجليس في الحضر… والصحيح أنه كل ما ذكر.
من بين هذه الحقوق العشرة المبينة في الآية، ذكر الله سبحانه وتعالى حق الجار وما ينبغي على المسلم مراعاته في حق جيرانه. والجيران أنواع ثلاثة:
– الجار القريب المسلم: وله ثلاثة حقوق، حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام.
– الجار المسلم: وله حقان، حق الجوار وحق الإسلام.
– الجار الكافر: وله حق واحد وهو حق الجوار.
فإذا اجتمعت جيرة وقرابة وإسلام، ثم انتهكت هذه الحقوق، لاشك أن الجرم مضاعف، فالشريعة جاءت بالوصية للجار الأجنبي ولو كان كافرا، فكيف بالجار القريب المسلم؟
مراتب حقوق الجار
هي مراتب ثلاث، ووجب هاهنا التذكير بحق الجار في زمن قلّ فيه علم الناس بما لهم وما عليهم من حقوق تجاه جيرانهم، فالإحسان إلى الجار من القيم السامية التي بدأت وللأسف تندثر في أغلب مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
1- الإحسان إليه
وهو من تمام الإيمان، والإحسان يكون بالأقوال والأفعال، وهو أن يصله النفع منه ولو بشيء يسير، كأن يصله بالتحية والهدية والزيارة والتعهد… وفي الحديث: (يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) 1، والفرسن العظم القليل اللحم قرب الحافر.
قال الشاعر أبو العلاء المعري:
متى نشــأت ريح لقدرك، فابعــثي
لجـارتك الدنيــا قليلا ولا تمـلي
فإن يسـير الطعـم يقضي مذمــــة
ولا سيما للطفـل أو ربة الحمـل
كذلك قول نبينا الكريم لأبي ذر الغفاري: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)، ويشمل الجار المسلم وغير المسلم.
كذلك مساعدته في أزماته، ومشاركته في فرحه، ومواساته في حزنه، وعيادته إذا مرض، وتشييع جنازته إذا مات، وحفظ أسراره، وتقديم النصح إليه عند الحاجة…
وهذا الدعم النفسي والمعنوي في السراء والضراء له بالغ الأثر في الدعوة وفي تأليف القلوب لا محالة.
بل هناك حديث شديد يقشعر له البدن، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (لقد أتى علينا زمان وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، يقول: يا رب هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه) 2.
2- كف الأذى عنه
والأذى يكون إما بإزعاج أو أذية بيد أو لسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) والبوائق هي الغوائل والشرور 3.
قال ابن حجر: (وفي هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم ثلاثا وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل ومراده الإيمان الكامل) 4.
وقد ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم شأن امرأة صوامة قوامة كثيرة الصدقة غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: (لا خير فيها، هي في النار )، وفي المقابل ذكروا له امرأة تصلي المكتوبة قليلة الصدقة قليلة الصوم لكنها تحسن لجيرانها، قال: (هي في الجنة).
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو له أذى جاره والحديث في مسند الإمام أحمد، فقال له نبينا الكريم اصبر، فعاد ثلاثا إذ لم يتحمل الأذية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرح متاعه ويجلس في طريق الناس، فجعل الناس يمرون به ويسألونه عما حمله على فعل ذلك فيقول: إن جارى فلانا يؤذيني، فيقول الناس: لعنه الله، لعنه الله، فلما سمع الرجل كلام الناس والكل يلعنه ذهب لجاره واستسمحه وقال له ارجع فوالله لن أوذيك بعدها.
3- الصبر وتحمل الأذى
وهذه أهم الثلاثة، وهي الصبر والتصبر على أذى جار السوء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب ثلاثة، ويبغض ثلاثة)، وذكر من الثلاثة الذين يحبهم الله: (والرجل يكون له الجار يؤذيه جِوارُه، فيصبر على أذاه، حتى يفرِّق بينهما موتٌ أو ظعن أي: الانتقال) 5.
والأشد من ذلك أن يبتلى المرء بجار سوء لا يتحول لأنه يؤذيه طول عمره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم: “تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام – الإقامة – فإن جار البادية يتحول عنك” 6.
قال لقمان لابنه: “يا بني، قد حملت الحجارة والحديد والحمل الثقيل، فلم أجد شيئا قط أثقل من جار السوء”.
يقول الحسن البصري: “ليس حسن الجوار هو كف الأذى بل هو تحمل الأذى”.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أربع من السعادة: المرأة الصالحة والجار الصالح والمركب الهنيء والبيت الواسع، وأربع من الشقاوة: الجار السوء والمرأة السوء والمسكن الضيق والمركب السوء” 7.
وقال في حديث آخر: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) 8.
وقال أيضا: (إن كنتم تحبون أن يحبكم الله ورسوله حافظوا على ثلاث خصال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، فإن أذى الجار يمحو الحسنات كما تمحو الشمس الجليد) 9.
وهذا رجل باع دارا له بثمن رخيص فلاموه على ذلك فأنشد قائلا:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي
ومــا علمـوا جـارا هنـاك ينغص
فقلــت لهـم كفــوا المـــلامة فــإنني
بجيرانها تغلو البيوت وترخص
وكان لعبد الله ابن المبارك جار يهودي أراد بيع داره، سألوه بكم؟ قال بألفين، قيل له إنها لا تساوي إلا ألفا، قال صدقتم ولكن ألف قيمة الدار، وألف لجوار عبد الله ابن المبارك، فعلم ابن المبارك بذلك فدعاه وأعطاه ثمن الدار وأمره ألا يبيعها.
كذلك فعل أبو جهم العدوي الذي باع جوار سعيد بن العاص، قيل له أو يباع جوار قط؟ وقال: (لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني جائحة فرج عني)، فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه بمائة الف درهم.
وقد جاء في المناظرة الخالدة لجعفر بن أبي طالب لما وقف بين يدي النجاشي ملك الحبشة، سأله من هذا الرجل الذي بعث فيكم فقال: “إنا كنا في جاهلية وشر، وكنا نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، حتى بعث الله لنا هذا النبي…”، كانوا يعدون سوء الجوار من الجاهلية شأنه شأن جميع الموبقات التي كانت منتشرة في المجتمع الجاهلي آنذاك كوأد البنات والشرك والميسر…
والأحاديث في شأن الجار كثيرة عدها العلماء نحو أربعين حديثا أو يزيد، كلها في الحث على الإحسان للجار وكف الأذى عنه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظيم أمر الجيرة عند الحق، وأنه سبحانه أعطاها حرمة كبيرة، وعليه فالواجب على كل مسلم مراعاتها والتقرب بها لمولاه طلبا لوجهه تعالى.
[2] رواه البخاري في الأدب المفرد (60) الرقم (2646).
[3] رواه البخاري.
[4] كتاب الفتح الباري.
[5] أخرجه الإمام أحمد (21340) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
[6] رواه النسائي.
[7] رواه ابن حبان في صحيحه 4032 وأحمد في مسنده 1448 وصححه الألباني.
[8] رواه البخاري ومسلم.
[9] الراوي: انس بن مالك، المحدث: الألباني، المصدر: السلسلة الصحيحة، الصفحة أو الرقم: 6/1264.