لا شك أن موضوع “حسن الجوار” من المواضيع الشائكة والشائعة، داخل المجتمعات الإسلامية عموما والعربية خصوصا. نظرا لارتباطها بالجانب الديني وما أوردت بخصوصه الشريعة الغراء من نصوص نقلية، وكذا ما توارثته الأجيال من موروث اجتماعي مرتبط بالأعراف والتقاليد المتأثرة والمستقاة من تعاليم الدين الإسلامي.
ولقداسة الموضوع وأهميته، وهيمنته على النسيج المجتمعي وخصوصا المغربي، فقد ارتبط حتى بالجانب الفني، فغنى الجيل القديم أغان تُمجد علاقة الجار بالجار، ومَثَّلوا مسرحيات وأعمال فنية، تُبين قيمة هذه العلاقة الاجتماعية الهامة.
ومِمَّا لا شك فيه أن جميعنا أو معظمنا عاش تجربة إيجابية أو سلبية مع جيرانه، اختلفت باختلاف الزمان والمكان والبيئات. فجيران الأحياء الشعبية يختلفون عن الأحياء الراقية، ونفس الأمر يحدث في الدواوير والمداشر بالعالم القروي. وهذه العلاقات تتسم بالتعقيد والبساطة أيضا. فنجد الجيران في بعض الأحياء نسيجا متكاملا أو أسرة واحدة، وفي أحياء أخرى نجد هذه العلاقات شبه منعدمة، بسبب تطور الأسر المغربية من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية، قد تنعدم روابطها وتقل حتى على مستوى القرابة الأسرية.
لقد حث الدين الإسلامي على مجموعة من الأخلاق التي ترتبط بالمجتمع في كليته، وتبني جسورا وأسسا ممتدة، داعمة ورافعة للمجتمع الإسلامي المتماسك الذي يشد بعضه بعضا. فلا يمكن للمسلم أن يبرهن على صدق مبادئه وحسن خلقه ولين عريكته وصفاء سريرته إذا لم يوضع على المحك، والمتمثل أساسا في علاقاته بالمحيطين به وعلى رأسهم جيرانه.
هذه المعاشرة اليومية، والاحتكاك المباشر، لمن أقوى الامتحانات والابتلاءات التي تظهر فيها تجليات الإيمان والتقوى. مصداقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره…”. وكذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يا أبا هريرة كُن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قَنِعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، وأقلّ الضحك فإن كثرة الضحك يميت القلب”.
لعل الكثير من الناس يعتقدون أن في انعزالهم عن جيرانهم، وخلق حدود اجتماعية فيما بينهم، نوع من اجتناب المشاكل والأذى، وفرض خصوصية صارمة تجعلهم في منأى عن المنغصات، التي تطول علاقات الجوار، وما علموا أنها برهان الصبر والإخاء والمحبة والتآزر والإيثار.
وما مِنَّا ببعيد، المجتمعات الغربية التي غرقت في أوحال المادية والرأسمالية، فتَجَرَّعوا مرارة الوحدة والأمراض النفسية، وغيرها من المشاكل الاجتماعية التي تنبذ التراحم والتماسك والتآخي.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق، ومنهم من له حقان، ومنهم من له حق واحد، فأمَّا الجار الذي له ثلاثة حقوق فجارك القريب المسلم، وأما الجار الذي له حقان فجارك المسلم، وأما الذي له حق واحد فجارك الذمي”. فالجار القريب هو الذي له حق القرابة وحق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له حقان فالجار المسلم الذي له حق الجوار وحق الإسلام، والجار الذي له حق واحد فهو الجار الذمي فله حق الجوار، ومعنى الذمي الذي ليس على دين الإسلام. وقد حفظ الإسلام حقه في الجوار وإن كان ذميا، وهذا من رحمة هذا الدين ومن المروءة التي يجب أن يتصف بها المسلم.
لقد انطلقت الآية الكريمة التي توصي بالجار من قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.. (النساء، 43). فبعد الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، يأتي الأمر بالإحسان إلى مجموعات أسرية خاصة، تبدأ بالوالدين وذوي القربى لتنتهي عند الأسرة الإنسانية، ليَتَّضِحَ لنا أن جميع التشريعات والتوجيهات في منهج الله، والتي تنظم الحياة ككل، تنبثق من أصل واحد، هو التوحيد المطلق، كما أن العمل ببعضها دون الآخر غير كاف لتحقيق صفة الإسلام، وأيضا غير كاف لتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة.
إن تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين والجيران وغيرهم من الناس بعبادة الله وتوحيده، لَهُوَ ربط فيما بين الأسرة القريبة ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة، لتجتمع كل الأواصر في ظل الآية الكريمة وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
وخير ما نختم به هذا المقال، قول أحد السلف الصالح لخص أسس وقواعد حسن الجوار في عبارات بليغة كافية شافية حيث قال: “تمام حسن الجوار في أربعة أشياء: أولها أن يواسيه بما عنده، والثاني أن لا يطمع فيما عنده، والثالث أن يمنع أذاه عنه، والرابع أن يصبر على أذاه”.