حقوقيون ينبهون إلى “خطورة” سيطرة الأجهزة الأمنية على القضاء وتوظيفه ضد المعارضين

Cover Image for حقوقيون ينبهون إلى “خطورة” سيطرة الأجهزة الأمنية على القضاء وتوظيفه ضد المعارضين
نشر بتاريخ

تعيد السلطات المغربية توجيه أنظار الجسم الحقوقي الوطني والدولي إلى ممارساتها التي يصفها حقوقيون بأنها “تسلطية” بعد إصدارها لأحكام سجنية ضد متابعين ومعتقلين، وفتح ملفات متابعات جديدة لآخرين على خلفية قضايا متعددة مرتبطة بحرية الرأي والتعبير، في العديد من المحاكم على امتداد التراب الوطني، ولا تنتهي حملة متابعة أو اعتقال، حتى تبدأ أخرى، لتجهز على أي أمل في أن الدولة قطعت مع هذه الممارسات.

يزداد الوضع عند توظيف القضاء في تصفية الحسابات

“سلوك الدولة اليوم هو سلوك دولة بوليسية تتحكم فيها الأجهزة الأمنية في كل مناحي الحياة. وأخطر ما تتحكم فيه هو القضاء”، بهذه العبارة استهلت الحقوقية المغربية خديجة الرياضي حديثها معنا عن الوضع الحقوقي في المغرب، خاصة بعد توالي المحاكمات والاعتقالات السياسية لمعارضين وحقوقيين ومدونين وناشطين اجتماعيين.

وإن لم يكن أسلوب الدولة جديدا فيما يتعلق بالهجوم العنيف على الحقوق والحريات، لكنه كما تقول الرياضي “يتزايد أكثر فأكثر حيث وصل بالسلطة أن تعتقل أطفالا للانتقام من معارضين ومدونين”. ويزداد الأمر سوءا إذا كان ما يحدث اليوم يدخل ضمن ما يعتبره الحقوقي المغربي البارز، الدكتور محمد الزهاري “توظيفا واضحا للقضاء في تصفية الحسابات مع عدد من الأصوات المعارضة والممانعة، من نشطاء حقوقيين ومناهضي التطبيع ومنتقدي السياسات العمومية المتبعة، وخاصة المرتبطة منها بقضايا حقوق الإنسان والحريات”.

والغريب أن هذه المحاولات التي تسعى إلى تكميم أفواه المعارضين والمنتقدين وفق حديث الإعلامي أفتات “همت مختلف التوجهات، من سياسيين ونقابيين وقادة الحراكات الاجتماعية، كما همت المجال الحقوقي والإعلامي، وعالم التدوين، بل لم يسلم منها حتى المؤرخون والباحثون، وبشكل بارز المناهضون للتطبيع الذين توالت متابعتهم خلال الشهور الأخيرة بشكل متوال ومتسارع”.

الأحكام القاسية تسقط حق هؤلاء في مناقشة قضايا وطنهم بحرية

من جانبه عبر الأستاذ محمد الصروخ، المحامي وعضو المكتب المركزي للفضاء المغربي لحقوق الإنسان، عن حجم استغراب الوسط الحقوقي المغربي مؤخرا وتفاجئه بمجموعة من الأحكام القاسية الصادرة عن محاكم المغرب في عدد من الملفات الجنحية الرائجة المتابع أصحابها على خلفية تدوينات على الوسائط الاجتماعية.

وتابع موضحا أن مثل هذه المتابعات والأحكام القاسية “تشكل انتهاكا خطيرا لحرية التعبير وحرية التدوين والنشر ومنافية لأبسط المعايير الدولية لحقوق الانسان، ومنها المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان التي تكفل حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، بل ويسقط حق هؤلاء في مناقشة القضايا الوطنية والسياسات العمومية بحرية وتجرد وفق ما نصت عليه فصول دستور 2011”.

السلطات لا تتحرج في توظيف كل الوسائل أو البحث عن التهم من أجل تسطير المتابعات، فهي تعتمد قانون الصحافة والنشر كما تعتمد القانون الجنائي، لتوجيه تهم تتعلق بتهديد الأمن العام ضد المعارضين والمدونين والصحفيين، ويكون القضاء البوابة الأساسية لتصفية هذه الحسابات.

وقد أشار الدكتور محمد الزهاري، رئيس فرع التحالف الدولي للحقوق والحريات بالمغرب، إلى أن كثيرا من المتابعات التي حركت في الآونة الأخيرة “غالبا ما تتم تحت غطاء إهانة موظفين عموميين أثناء قيامهم بمهامهم أو إهانة هيئة منظمة أثناء القيام بمهامها والتحريض على ارتكاب جناية أو جنحة باستعمال الرسائل الإلكترونية والتحريض على التمييز والكراهية باستعمال هذه الوسائل”، وتنص على ذلك الفصول 263-265-431.2 431.3 431.5 من القانون الجنائي.

“حمى” التضييقات والاعتقالات في المغرب تطرح أكثر من علامة استفهام

واستعار الإعلامي عبد الله أفتات وصف “الحمى” للحديث عن هذه التضييقات والاعتقالات والمحاكمات التي يعرفها المغرب خلال السنوات الأخيرة، موضحا أن تضاعف عددها بشكل مثير “يطرح أكثر من علامة استفهام، خاصة وأنها تهدد بل تجهز على المكتسبات التي تحققت وتراكمت منذ عقود”.

وترى الرياضي أن تواتر المحاكمات على أساس الرأي وإصدار الأحكام الجائرة في الفترة الأخيرة بشكل كبير، يوضح أن هناك تزايدا في تغول السلطة وإمعانا منها في تجريم الحق في التعبير السلمي عن الرأي، في تناقض صارخ ليس فقط مع العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية الذي صدقت عليه الدولة المغربية منذ 1979، والذي يلزمها باحترام كافة الحريات السياسية، بل في تناقض حتى مع الدستور نفسه الذي وضعته الدولة على مقاسها.

وإذا نظرنا إلى أغلب المتابعات القضائية في عدد من الملفات المفتوحة في مختلف المحاكم في السنوات الأخيرة، نجدها مرتبطة بحرية الرأي والتعبير تحديدا، جزء منها مرتبط بالتدوين وهو ما يعزز إيمان عدد من الحقوقيين بنهج الدولة أسلوب تقييد الفضاء الرقمي بعد تقييد الفضاءات العامة، من خلال مراقبة المحتوى الإعلامي عموما والإلكتروني خصوصا وملاحقة المدونين.

ولفت الصروخ إلى أن هذه السياسات التضييقية تجعل المغرب في تعارض واضح مع التزاماته الدولية في مجال حقوق الإنسان، كما أنها تساهم في تقليص الهامش المتآكل أصلا من الحرية الذي يُعدّ عنصرًا أساسيًا في أي دولة ترفع شعارات الدولة الديموقراطية فضلا عن الدولة الاجتماعية.

هدف التضييقات المبالغ فيها هو الإجهاز على المكتسبات الحقوقية

لقد سبق للهيئة المغربية لمساندة المعتقلين السياسيين “همم”، كما أشار الزهاري عضو مكتبها، أن أصدرت تقريرا مفصلا عُرض خلال ندوة صحفية نظمت يوم 29 ماي من السنة الماضية، ويتضمن أحكاما بسلب حرية عدد من النشطاء الحقوقيين والصحفيين وكتاب الرأي والمدونين.

وتابع الزهاري موضحا أن “همم” اليوم بصدد الإعداد لإصدار تقرير سنوي ثانٍ، سيتضمن الحالات الجديدة من الاعتقالات السياسية واعتقالات الرأي، في إشارة إلى توالي هذه المحاكمات وفتح ملفات قضائية جديدة على خلفية الرأي والتعبير.

الفضاء المغربي لحقوق الانسان، وفق حديث الصروخ إلينا، يتابع ملفات هؤلاء النشطاء وغيرهم و”يسجل قلقه وتهممه الكبير بمآل الملفات الحقوقية الرائجة في عدد من محاكم المغرب والمتابع أصحابها أساسا بحق الرأي والتعبير ومناهضة التطبيع”.

وبينما أكد أفتات أن مناضلين كثرا قدموا من أجل هذه المكتسبات العديد من التضحيات، شدد في المقابل على أن الإجهاز عليها يضرب في العمق ما التزمت به الدولة المغربية، بالقطع مع ما جرى في الماضي من انتهاكات وتجاوزات.

نحن نعيش سنوات رصاص متجددة

وفي وقت نبهت فيه الرياضي إلى خطورة “سيطرة الأجهزة الأمنية على جهاز القضاء، وتوظيفه توظيفا سياسيا بل إجراميا، لمواجهة المعارضة بعنف، والزج بالأبرياء في السجون، وغض الطرف عن المتورطين في جرائم الاختطافات والتعذيب والقتل في مخافر الشرطة ومراكز الاحتجاز”، اعتبر الإعلامي أفتات أن كل ذلك هو “محاولة لإخافة الناس حتى يوقفوا احتجاجاتهم” التي يندرج جزء كبير منها ضد سياسة التطبيع المستمرة رغم الظروف الإقليمية غير المناسبة، وضدا على الإرادة الشعبية.

وذهبت الراضي إلى أن سيطرة الأجهزة الأمنية على القضاء هي سبب الأضرار البليغة التي أسفرت عنها المحاكمات السياسية التي عرفتها بلادنا، وسبق لهيئة الإنصاف والمصالحة أن أكدت ذلك في تقريرها عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و”قد عادت إلى ارتكابها السلطة، ونعيش اليوم سنوات رصاص جديدة من خلال الاعتقالات التعسفية بسبب الرأي، وطبخ الملفات وتلفيق التهم، وتزوير المحاضر واستعمال القضاء لتبييض هذه الخروقات وإصدار أحكام بعد محاكمات تغيب فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة”.

وعن سماع أخبار لثلاث أو أربع إلى خمس محاكمات للرأي في نفس اليوم، قالت الرياضي إن ذلك يعد أحد مظاهر التراجع الخطير الذي عرفته الحريات في بلادنا، علما أن هذا النوع من المحاكمات لم يتوقف يوما، لكنه اليوم تزايد بشكل مروع.

ومن بين مظاهر التعسف والجور، تقول الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان “أن يتابع الصحفيون والمدونون بما يكتبونه ويتم اللجوء إلى القانون الجنائي في المتابعة عوض قانون الصحافة والنشر، لأن هذا الأخير لا يتضمن عقوبات سالبة للحرية”. وهو ما اعتبرته انتهاكا سافرا للقانون ولمبادئ العدالة، ويبين أن “الهدف هو الانتقام وإلحاق الضرر بسبب حقد السلطة على كل من ينتقدها ويعبر عن آراء لا تروقها، وليس الهدف هو حماية النظام العام وحقوق المجتمع”. وقالت: “إنه سلوك الديكتاتوريات والأنظمة التسلطية والتحكمية”.

اختيارات الدولة “غير الشعبية” سبب وضع البلاد في مراتب متدنية دوليا

وبينما وصف الزهاري عددا من اختيارات الدولة وسياساتها العمومية الحالية بأنها “غير شعبية”، وشدد على أنها سبب وضع البلاد في مراتب متدنية دوليا في مجال محاربة الفساد واحترام الشفافية واحترام حرية الرأي والتعبير والتنمية البشرية. أكد مقابل كل ذلك على ضرورة اتساع صدر المسؤولين لتقبل النقد وقبول الأفكار والآراء المعارضة، داعيا إلى الكف عن “التوظيف البين للقضاء في تصفية الحسابات مع المعارضين”.

وإذا كان الصروخ يأمل أن تستدرك السلطات أمرها وتعيد النظر من جديد في ملفات عدد من الأحكام في الطور الاستئنافي خاصة ملف القسطيط وعبد المومني والحكم ببراءتهما، فإنه في الوقت نفسه يجدد رفضه ورفض الفضاء المغربي لحقوق الإنسان لما قال عنه “سياسة تكميم الأفواه، والاعتقالات السياسية” التي تطال عددا من النشطاء المغاربة، وكذا التضييقات الممارسة على بعض المناضلين الداعمين للقضية الفلسطينية والرافضين للتطبيع، مشددا على “دعمه المطلق لكل الملفات الحقوقية وكل القضايا العادلة في وطننا وخارجه”.

ولم يكتف أفتات بتوجيه النقد للسلطة وتحديد مهامها في هذه المرحلة، والتي حددها في أمرين؛ “التراجع” عن هذه السياسة التي لن تزيد إلا في الاحتقان الذي يشهده المغرب، ثم “الالتزام” بما تتضمنه الوثيقة الأساسية للبلاد خاصة على مستوى حريات الرأي والتعبير، والتي تؤكد وتعطي مساحة معتبرة للتعبير رغم الملاحظات المسجلة حولها. وإنما خاطب أيضا من وصفهم بـ”القوى الحية الوطنية”، وناشدها من أجل “وضع برنامج نضالي مشترك، باعتباره محاولة لدفع السلطات إلى وقف هذه التراجعات التي أصبحت لا تطاق”

أما الرياضي فشددت على أن النضال ضد انتهاك الحقوق والحريات السياسية “لا يجب أن نفصله عن نضالنا ضد السياسات الطبقية للسلطة التي تريد إخضاع الشعب لذوي المال والنفوذ، لينفردوا بثرواته وكل مقدراته، ويخلو لهم الجو لتقديم كل الخدمات للكيان الصهيوني وتمكينه من أن يصول ويجول ويعيث فسادا في بلادنا”.  

تزايد أشكال التضامن يشكل أول خطوات مواجهة الوضع المتأزم

هذا الوضع السياسي المتأزم، تقول الرياضي؛ “يشكل تحديا أمام الحركة الحقوقية وكل القوى التواقة إلى مغرب تسوده الحقوق والحريات. يتطلب أن تتزايد أشكال التضامن مع المعتقلين السياسيين وعائلاتهم بكل الأشكال لدعمهم في مواجهة هذا الظلم الشديد الذي يتعرضون له”، مع “توحيد الجهود لتقوية النضال من أجل فرض إطلاق سراحهم كما تم بالنسبة لعدد من معتقلي الرأي السنة الماضية”.

ونبهت الرياضي إلينا إلى أن هذه المحاكمات السياسية هي “واجهة” فقط من أجل إسكات كل صوت يفضح الفساد السياسي والمالي ويفضح مخاطر التطبيع على بلادنا وتهديداته لاستقرارها، ويفضح سياسات التفقير والتهميش من طرف طبقة تستغل كل مؤسسات الدولة للنهب والسلب وخدمة الكيان الصهيوني. 

جدير بالذكر أن عددا من المحاكم في المغرب أصدرت أحكاما ضد مجموعة من المتابعين، حيث إنه خلال أسبوع من الحكم النافذ الذي قضت به المحكمة الابتدائية الزجرية بالدار البيضاء بتاريخ الاثنين 3 مارس 2025 على الناشط فؤاد عبد المومني بـ 6 أشهر حبسا، قضت المحكمة الابتدائية بطنجة بتاريخ الاثنين 10 مارس من نفس الشهر على المدون رضوان القسطيط بسنتين حبسا نافذا. ورفع حكم سعيد أيت المهدي إلى سنة سجنا نافذا. وفضلا عن ذلك فإن ملفات ما تزال معروضة على القضاء وتتعاقب جلسات أصحابها، منها متابعة محمد البوستاتي والصحافي حميد المهدوي والإعلامية لبنى الفلاح وذلك بسب تدويناتهم أو التعبير عن آرائهم. وهذا الحجم من الملفات التي لا تعني إلا تكميم الأصوات المنتقدة تضرب في العمق مصداقية النظام القضائي ويقوض مبادئ العدالة وحقوق الإنسان.