قال الله تعالى: يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّبِےٓءُ اِ۪نَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداٗ وَمُبَشِّراٗ وَنَذِيراٗ وَدَاعِياً اِلَي اَ۬للَّهِ بِإِذْنِهِۦ وَسِرَاجاٗ مُّنِيراٗۖ وَبَشِّرِ اِ۬لْمُومِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اَ۬للَّهِ فَضْلاٗ كَبِيراٗۖ (الأحزاب، 45).
يخاطب الحق جل وعلا سيدنا محمدا ﷺ بـ”يا أيها النبي”، ويخاطبه أيضا بـ”يا أيها الرسول” وهو خطاب تشريف خاص بالرسول الكريم. إذ إن الخطاب في القرآن لإخوانه الأنبياء عليهم السلام دائما يأتي بأسمائهم (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم / يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا / يا يحيى خذ الكتاب بقوة / يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض).
شهادة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على أمته وعلى الإنسانية بتبليغهم الدين كاملا وبجهاده من أجل ذلك في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وكذا جهاده حتى أقام بفضل الله صرح الإسلام، وزكى أنفسا ورسخ أخوة في الله ورحمة بين الناس وأقام العدل والقسط في الأرض، وأسس حضورا للأمة بين الأمم، لها وزنها وكلمتها على هذه البسيطة.
وأسوتنا بالرسول الحبيب عليه الصلاة والسلام في باب “الشهادة” أن نجتهد كما اجتهد أفراد وجماعات وأمة قصد تزكية الأنفس وتعزيز روابط الأخوة في الله بين المؤمنين، والعمل من أجل أن يسود العدل بين الناس وبين الأمم، وبأن يكون الدين حاضرا شاهدا في الأمة غير غائب، دين الرحمة والرفق والقسط، لا دين العنف والإقصاء والتكفير، ولكن أيضا دين العزة والقوة والمنعة، لا دين الزهادة السلبية ودين الخضوع والخنوع لحكام الجور.. الدين الذي يصدع بكلمة حق عند سلطان جائر، لا الدين الذي ينام في حجر سلطان جائر ويبرر ظلمه وعسفه.. الدين الذي يبني اقتصادا حرا وتنمية رائدة وتعليما متطورا وعلوما نافعة، ويجعل للأمة حضورا بين الأمم. الشهادة معناها أن تكون للأمة كلمتها فيما يجري حولها، أن تكون فاعلة مؤثرة لا تابعة خانعة.
جاءنا الرسول عليه الصلاة والسلام أيضا بالبشارة بكل خير، داعيا للبشارة في كل شيء، ومبشرا من اتبع رضوان الله بسعادة الدارين، وحمل هذا الدين على اليسر، وهكذا ينبغي أن نكون على آثاره صلى الله عليه وسلم مبشرين غير منفرين.
قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ما خُيِّر رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله (رواه البخاري رحمه الله).
النذير هو الصادق المحب المحذر من الشر ومن طرق الشر، ومن عاقبة اتباع الهوى الباطل، ومن ظلم النفس بجحودها لنعم الواحد الأحد ولأفضاله ولعبوديته. وهو المحذر من الظلم وعاقبته ومن كنز الأموال وعدم إنفاقها على المحرومين والفقراء والمستضعفين. وهو المحذر أيضا من منع الماعون وإهمال اليتامى وعدم الحض على لقمة المساكين، وعلى أثره ﷺ في هذا يجب أن تخطو الأمة الخطى الثابتة المستمرة والمقبلة غير المدبرة، والله ولي الصالحين.
لقد كانت مهنته صلى الله عليه وسلم منذ بعث حتى قبض الدعوة إلى الله في كل أوقاته وأحواله؛ دعوة العباد إلى عبادة الله وإخلاص الانقياد إليه، ودعوة المؤمنين والمؤمنات إلى التوبة المستمرة والمتجددة. وعلى منهاجه إن شاء الله ينبغي أن نكون، “نتوب إلى الله وندعو الناس إلى أن تتوب إلى الله” كما كان يكرر الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله.
الدعوة إلى الله تعود بالخير على صاحبها أولا بتذكره الدائم وثباته على الحق وبنيله فضل دعاء الخير له ولأهله ووالديه وذريته. يقول رب العالمين: وَمَنَ اَحْسَنُ قَوْلاٗ مِّمَّن دَعَآ إِلَي اَ۬للَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحاٗ وَقَالَ إِنَّنِے مِنَ اَ۬لْمُسْلِمِينَۖ (فصلت، 32).
الدعوة إلى الله تبقي الدين حيا في الأمة وفي هذه الأرض، وتصلح إن شاء الله حال الأفراد والمجتمع وحال الأمة، وهي تجديد للدين ونصرة للأخلاق والقيم التي يدعو إليها، ودحض لدعوات الفساد والإفساد وللدعوات المعادية للدين، وتصل بركتها إلى آفاق كثيرة قد يعلم أو لا يعلم الداعي أثرها، لكن هذا الأثر مكتوب بركة في الدنيا وأجرا وثوابا عظيما يوم الدين. أضف إلى ذلك أن الداعي إلى الله له من الأجر مثل أجر من تبعه إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال سبحانه في سورة آل عمران: وَلْتَكُن مِّنكُمُۥٓ أُمَّةٞ يَدْعُونَ إِلَي اَ۬لْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُفْلِحُونَۖ (آل عمران، 104). كل هذا بإذنه سبحانه وتعالى، هو الذي أذن في هذا، لا نحتاج في هذا إذنا من أحد. ثم إن التوفيق الذي يصحب هذه الدعوة والقبول المطلوب الذي يكتب لها في القلوب وفي الأرض، لابد لكل ذلك من إذن وفضل وبركة من الله الكريم الوهاب.
لقد كان الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام سراجا منيرا أخرج الله به أقواما – ويخرج به آخرين إلى يوم الدين – من الظلمات إلى النور، وصفه بالإنارة لأن من السرج من لا يضيء، ومن كلام الصالحين ثلاثة تضني: رسول بطيء وسراج لا يضيء ومائدة ينتظر لها من يجيء.
إنه المصباح المضيء الذي ينير طريق الحائرين إلى صراط العزيز الحكيم. نعم، الدين الذي جاء به سيدنا محمد ﷺ علم وفهم وفكرة وعدل وشورى وأخلاق وسلوك قويم.. لكنه قبل ذلك ومعه وبعده نور الإيمان واليقين في القلوب المنبعث من نور الوحي. هذا النور الذي يمشي به المؤمن وتمشي به المؤمنة في الناس منبعه واستمراره تعهد دائم لكتاب الله، ولسان رطب من ذكر الله، وقلب مطمئن بذكر الل،ه وصفاء سريرة، ومحبة الخير لعباد الله، وسكينة تتنزل في مجالس الإيمان، ورحمة تغشى النفوس في مجامع خير يحتضنها بيت من بيوت الله، وذكر للقلوب الذاكرة في الملأ الأعلى، ملأ الملائكة الأطهار الأبرار الأخيار.
من هذا المعين يستقي المستقون دائما وأبدا كي تظل قلوب الدعاة منورة، وتغمر ببركة نورها كل نية وكل فكرة وكل إرادة وكل عزم وكل حركة وكل سلوك، سيرا على أثر النور المنور والرحمة المهداة سيد الأولين والآخرين. لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلاة الله وسلامه. والحمد لله رب العالمين.