في بيت من بيوت المسلمين وفي منتصف فصل الشتاء حين تصبح المعاطف والأحذية البلاستيكية والجلباب الصوفي عادة يومية لا غنى عنها.. اليوم يوم عطلة مدرسية، استيقظ الأبناء الثلاثة باكرا وكلهم نشاط وحيوية، يلعبون فيما بينهم مستمتعين فرحين ضاحكين، فتح الأب الباب ليلقى نظرة عليهم فانكبوا عليه بالقبل والأحضان وأغلقوا عينيه، تظاهر الأب بفقدان توازنه ليتصابى معهم فاستمروا بالتعلق به وتسلق ظهره حتى غطوه بـأجسامهم الصغيرة، ثم بدأ هجوم الدغدغة، فجاءت الأم فاطمة تتفقدهم بعد أن تعالت أصواتهم لتجدهم في جو من اللعب والمرح..
وبعد مرور زمن وهم على هذه الحال، اقترح الأب على زوجته وأبنائه الذهاب إلى قرية جدتهم التي لا تبعد كثيرا لزيارتها ولتفقد أحوالها في هذه الأجواء الباردة، واللعب مع حيواناتها الأليفة..
تحمس الأبناء وقال أصغرهم: نعم نعم نعم، وخصوصا الدجاج فنحن نتسابق معه في زريبة جدتي. استغرب الأب وتوجه بنظره مستفسرا ولديه الأكبرين، ساد جو من الصمت الغريب فأجاب الأب نفسه: على أي! الجو الماطر ليس للتسابق مع الحيوانات، لا نريد أن نمرض وتحزن علينا الجدة.
أجابه أبناؤه: نعدك يا أبي أن نكون أبناء صالحين.
نظر الأب إلى زوجته فاطمة التي بدأت تغير لهم الملابس وتبسّم في حنان وطرف بعينيه، فبادلته الابتسامة وحركت شفتيها قائلة له في همس: صالحين، إن شاء الله.
في الطريق.. تنزل قطرات المطر ببطء على أوراق الأشجار فتزيدها تلألؤا وجمالا كأنها تزينها بالجواهر والحلي.. أُعجب الأبناء كثيرا بالطبيعة فعلق أحدهم: طبيعة الشتاء ساحرة. سأل الأب: من خلق هذا الجمال كله. قالوا: الله عز وجل. قال: إذن نقول سبحان الله عندما نرى هذه المناظر، فهي تذكرنا بعظمة خالقها.
وصل الأب وأهله إلى بيت الجدة فاستقبلتهم بغبطة وعناق، وأعدت لهم القهوة “البلدية” الدافئة، ذات المذاق اللذيذ والفريد الذي لا يضاهيه مذاق أي قهوة أخرى، بادرها الأب بقوله: أمي! كم من الوقت تستغرقين لإعداد هذه القهوة اللذيذة. أجابته الجدة: أستغرق 100سبحان الله و100 الحمد لله و100 الله أكبر. قال أصغر الأبناء: جدتي أنت ذاكرة لله. فأجابته: هذا شيء قليل يا ولدي، فرسولنا أوصانا أن نكثر من ذكر الله.
بعد احتساء القهوة قبّل الأبناء يدي جدتهم وذهبوا للعب، اقترح الأب وزوجته فاطمة على أمه أن تساعدهم بسرد قصة عن قيمة الذكر؛ فضله وبركته وإسعاده للعبد في حياته الدنيا قبل الآخرة، خصوصا أنها مثال يقتدى به، وافقت الجدة وأومأت برأسها وهي تبحث في ذاكرتها القديمة المليئة بالتجارب والدروس عما يجمع بين معاني الذكر وبساطة الفهم وجمالية السرد، وبعد هنيهة فتحت عينيها متذكرة قصة “الأبكم ذاكر” وقالت في نفسها: يا لها من قصة جميلة سترسخ أقدام ولدي وزوجه وصغارهم في تربة الذكر إن شاء الله تعالى.
في المساء، اجتمع أفراد الأسرة وتحلقوا حول الجدة، بعدما تناولوا حساء الخضر بالدجاج الساخن الذي أدفأ أمعاءهم، وكلهم آذان صاغية لكلام جدتهم، فهي تعرف كيف تستأثر بانتباهم..
قالت الجدة: بسم الله الكريم، العالي العظيم. خلق النجوم والسماء والأراضين، ووكّل بها الإنسان المسكين، ليسأله عنها بعد حين.
تبدأ خيوط قصة “الأبكم ذاكر” في بلاد بعيدة، يعيش فيها البكم فقط، فلا يستطيعون الكلام ولا يتواصلون بينهم إلا بلغة الإشارة، قضاؤهم وشؤونهم العامة، بل وحتى أسواقهم، لا صخب فيها، اللهم أصوات الطبيعة وأصوات حيواناتهم التي ترافقهم. لكن الأمر الغريب في هذه البلاد أن أهلها كانوا يسمعون كل يوم من الإشراق إلى العشي دندنة وغمغمة لا يعرفون مصدرها، فقد تبعوا الصوت الذي قادهم إلى الجبل وبحثوا فيه شبرا شبرا، لكنهم لم يجدوا أحدا وعادوا أدراجهم خائبين، وكان الأمر يتكرر يوميا، يسمعون نفس الهمس في نفس التوقيت، ومع كل يوم يزداد فضولهم إلى معرفة صاحب الصوت حتى قرروا أن يسألوا “الحكيم ذاكر”، وهو رجل كثير الذكر رغم أنه أبكم لكن لسانه لا يتوقف عن الحركة، ولا يزال رطبا بذكر الله إلى أن لقبوه بذلك، كان معروفا بورعه وتقواه، مشهورا عندهم بالحكمة الواسعة وفصل الخطاب.
وفي اليوم المعلوم اجتمع الناس وكلهم عزم وإصرار على أن يفكوا هذا اللغز المعقد، ومضوا يتقدمهم الحكيم ذاكر حتى وصلوا إلى مكان الصوت المجهول، ووقفوا ينصتون إلى الغمغمة و يتحلقون حول الحكيم الذي صعد فوق تل ليروه جميعا وخاطبهم بلغة الإشارة: “أيها الناس إن جبلكم هذا هو مصدر الصوت، يسبح بحمد ربه بالعشي والإشراق، ألستم أولى أن تسبحوا ربكم الواحد الأحد، وتكبروه على ما هداكم، وتحمدوه على ما رزقكم من مال وبنين وأنعام وثمار .. ألستم أولى أن تذكروا الله كثيرا، وتحمدوه على ما أعطاكم من عقل تخترعون به وأعين تبصرون بها وآذان تسمعون بها وأيد تبطشون بها وأرجل تمشون بها.. ألا ترون أنكم بالمقارنة مع هذا الجبل منعمون أكثر، ومكرمون من عند ربكم سبحانه وتعالى”.
تأثر الجميع بقول الحكيم وأجابوه: “بلى، والله نحن أولى بالذكر من الجبل”. وفهموا مغزى قول حكيمهم؛ وعظُم في قلوبهم ذكر الله، وعزموا على الإكثار منه في أحوالهم كلها؛ قياما وقعودا وعلى جنوبهم، وتعاهدوا على التعطر به في مجامعهم وخلواتهم.
أصبح أهل بلاد البكم يذكرون الله عز وجل مع الجبل يوميا، فزادت البلاد رواجا وازدهارا، بل أكثر من ذلك شفي أهلها من البكم، ورزقهم الله حسن المنطق وجمال الصوت، فأصبحت بلاد البكم ناطقة على بكرة أبيها، لكنهم احتفظوا باسمها ليتذكروا دوما آلاء الله عليهم، ولتكون عبرة لغيرهم من البلدان وقدوة لمن بعدهم.
نظر الأب لأبنائه وقد ظلل النوم جفونهم، وشكر لأمه حسن قصصها، وضربوا الموعد في لقاء آخر مع حكاية أخرى من حكايات أبوية.