في بيت من بيوت المسلمين، وفي زينة الفصول وأبهاها خضرة وجمالا وطلة، الطبيعة ترقص فرحا وتغني سرورا فقد جاء الربيع؛ فصل الجود والعطاء والسخاء، وزاده تفضيلا تزامنه مع شهر رمضان وما أدراك ما رمضان ربيع الشهور ومطهر وحر الصدور؛ فيه أنزل القرآن، لو كان هذا التشريف الوحيد الذي ناله لكفاه ووفاه، ولكن زاد فضلا بليلة القدر، فهو شهر البركة والأضعاف المضاعفة من الحسنات في أعمال البر كلها بلا استثناء. فالحمد لله أن التقى الربيعان وفاضت الأنوار وعم فضل الله على هذه الأمة المرحومة بدعوة شفيعها ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم، نبي الرحمة و نبراس الخير.
جلس الأب مع أبنائه حول مائدة الإفطار مستمتعين بالأجواء الرمضانية ومنتظرين أذان المغرب بصبر وتصبر، خصوصا أنها تجربة الابن البكر الأولى، الذي صام اليوم كاملا، تدريبا وتدرجا واستئناسا بهذا الركن الثالث من أركان الإسلام. سأله الأب عن رأيه في هذه التجربة فقال: أحس بالفخر لأنني تمكنت من الصيام، لا أنكر أني أشعر بالجوع والعطش لكن الفرح غالب علي وأصبر نفسي أن لم يتبقى الكثير. قاطعه الابنان الآخران بحماس: “ونحن أيضا نريد أن نصوم”، فضحك الأب وأجاب: “في رمضانات القادمة إن شاء الله. إن فضل الصوم عظيم؛ فهو يشعرنا بجوع المحتاج المعدوم، ويدرب أنفسنا على الامتثال والطاعة لله.. ولكن يا صغاري نبدأ بالصلاة أولا والوضوء وحفظ قصار السور لكي نعبد الله كما يحب لنا”.
جاءت فاطمة بعد أن أطفأت النار التي كانت تطهى عليها “الحريرة” الرمضانية، وجلست تشارك أسرتها أطراف الحديث وتشرح لأبنائها الصغار أبجديات الأعمال المستحبة في رمضان: “فعلا، كما قال أبوكم يا شموسي المضيئة، رمضان فرصة للتقرب إلى الله فالحسنة فيه بعشر أمثالها مقارنة بغيره من الشهور، وهو شهر البذل والإنفاق والكرم والتطوع، سواء بذل المال أو الوقت أو العلم أو النفس، وفي مستواكم ينبغي بذل العلم في مدارسكم”.
قال أحد الأبناء: “لكن يا أمي المجتهد لا يحادي الكسول، ففي قسمنا المجتهدون لا يرضون بالجلوس قرب من درجاتهم متدنية نفورا واشمئزازا منهم”.
أجابت الأم: “هذا سلوك خاطئ يا ولدي! فلو أنفق المجتهدون في قسمكم من جهدهم ووقتهم وعلمهم لتحسين مستوى المتعثرين في الدراسة بدل السخرية منهم، لما بقي في قسمكم كسالى، ولبارك الله في تحصيلكم الدراسي، ناهيك عن الأجواء الأخوية التي ستعم وستمتد إلى ما بعد الدراسة، فللبذل عظيم الأثر على الفرد وعلى المجتمع. وهذا الموضوع ذكرني بقصة “الحبة سنبل”، هل تريدون سماعها؟”.
وافق الأب على الفور، أما عيون الأبناء فقد تلألأت فرحا وشوقا، فأجاب عنهم كبيرهم: “نعم، من فضلك حتى أنسى جوعي” ضحكت الأم وبدأت تسرد القصة:
“كان يا ما كان، في حقل واسع ومرج أخضر فسيح بعيدا عن البشر، تدب الحياة في همة ونشاط في مجتمع النبات، حيث آلاف الأنواع والألوان والأشكال تعيش في انسجام في تربة واحدة، تسقى بماء واحد، وتحت سماء واحدة، فسبحان الخالق. وهذه الأيام ينظم مجتمع النبات موسم الاستعراض، وهو موسم تجتمع فيه الحبوب والقطاني والثمار من جميع أنحاء الحقل ليعرضوا مزاياهم وجودة المنتوجات التي ينحدرون منها، وقد حضرت الحبة سنبل هذا الموسم رفقة صويحباتها من الحبوب، وبدأن في تقديم التقرير السنوي حول محصول هذا العام أمام الجمهور والمشاركين الآخرين، فجأة وقع ما لم يكن في الحسبان.. هجمت أسراب من الجراد فأتت على الأخضر واليابس، وابتلعت كل ما تجد في طريقها من ثمار وغلة ونباتات، وأفسدت فسادا موحشا فأصبح الحقل خاويا على عروشه لا تكاد ترى ناجين إلا قليلا هنا وهناك، كانت الحبة سنبل منهم.
تعالت أصوات البكاء وخيم الحزن على الأجواء وبدت خيبات الأمل ظاهرة على الوجوه والمقل، فقامت الحبة سنبل توحد الصفوف وتشحذ الهمم وتزرع الأمل لصناعة الحياة في الحقل وتعميره من جديد، جمعت ما تبقى من الأحياء وشجعتهم ليكونوا جنودا متطوعين، يظافرون جهودهم وطاقاتهم ليضعوها في خدمة الحقل. وبالفعل، فنجحت في إيقاظ هممهم، فبدأ الكل في التطوع والعمل المنظم وبذل الوسع ليستعيد الحقل نضارته، وهكذا بعد أن بذلت الحبة سنبل كل جهدها ووقتها وما تملك، بذلت في الأخير نفسها، فأنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مئة حبة مثلها. وفي ذلك مثل للمؤمن الذي ينفق ماله في سبيل الله فيضاعفه له أضعافا كثيرة، وأصبح الحقل مخضرا من جديد وعادت إليه الحياة في همة ونشاط”.
فور انتهاء الأم فاطمة علا صوت أذان المغرب معلنا فرحة الإفطار.. فسارع الأولاد إلى المائدة بعد أن استفادوا من قصة أمهم الماتعة.