في بيت من بيوت المسلمين؛ فتح الأب نافذة البيت مُرحبا بأشعة الشمس التي دخلت كضيف يجيب الدعوة، تنقل الأب عبر غرف أبنائه الذين كبروا ففرق بينهم في المضاجع، فحاتم الابن البكر ذو 16 سنة يدرس في القسم الثانوي يشترك الغرفة مع أخيه الأصغر حسام ذي 12 سنة وهو في آخر سنة ابتدائي، تتوسطهم أختهم الوحيدة صوفيا ذات 14 سنة، تجتاز المرحلة الإعدادية وتنفرد بغرفة لوحدها. دق الأب باب الغرف للاستئذان ونادى: إنه وقت الاجتماع العائلي. أسرع الأبناء لتلبية نداء أبيهم، فهم يحبون هذا الاجتماع الذي ينصتون فيه إلى حكايات جديدة ومشوقة.
نزلت صوفيا التي أصبحت زهرة أنيقة متألقة، فقد تحجبت هذا العام فزادها حجابها إشراقا ونورا، والتحقت بأمها فاطمة فقبلتها وجلست بجوارها، نزل بعدها حاتم بقامته الطويلة التي تشبه قامة والده وبلباسه الرياضي الذي يعتز به كثيرا والذي ربحه في إحدى بطولات الدوري الممتاز لكرة السلة، تبعه آخر العنقود حسام الذي نزل بسرعة خاطفة لكي لا يتأخر عن مجلس الأسرة بعد أن أنهى حصة المراجعة لمادة النشاط العلمي. بعد أن سألهم الأب عن تحصيلهم الدراسي، أخبرهم أن حكاية اليوم ستكون عن خصلة العلم، ثم بدأ حكيه: “نعوذ بالله من علم لا ينفع، والعلم الحق النافع دنيا وأخرى هو ما جاءنا من الوحي في الكتاب والسنة، وكل العلوم الكونية الأرضية إنما تنفع إن استعملت لإبطال الباطل وإحقاق الحق. كما أن علم الحق يبقى في عين غيرنا نظريات وأساطير إن لم نتسلح بالعلوم الأرضية وحكمة الأمم كي نجسد ما نؤمن به من الحق على أرض الواقع”. وأضافت فاطمة: “أنتم يا أولادي على ثغرة عظيمة هي طلب العلم، فمتى جددتم النية لتكون خالصة لوجهه الكريم لن تظفروا بنفعه على مستوى درجات الدنيا فحسب، بل تفوزون بقرب المولى في الآخرة، وما أجمل أن تعبد الله على علم، وحكاية اليوم أقصها عليكم بحب وشغف بعنوان: طالبات علم”.
“في إحدى مدرجات الجامعات العالمية، تجلس ثلة من الطالبات يتحدثن بانتظار قدوم الأستاذ لبدأ المحاضرة كغيرهن من طلبة هذا التخصص، قالت إحداهن في ضجر: “أوووف، أنا لا أحب هذه الجامعة ورائحة المدرجات تشعرني بالاشمئزاز، لولا ضغوط والدي لأدرس فيها ما فعلت”.
أجابت أخرى: “لا تقولي ذلك! فهذا التخصص مطلوب بعد التخرج، فكري بالمال الذي سيتدفق عليك بعد أيام الدراسة العجاف، فأنا غششت لأدخل هذه الدفعة وسأغش في جميع الامتحانات القادمة لأحصل على تلك الشهادة”.
ردت الثالثة: “سامحك الله! لو وفرت نصائحك هذه لنفسك، فإذا افترضنا أنك حصلت على منصب بعد التخرج، فكيف ستستمرين فيه وأنت لا تملكين العلم والمهارات اللازمة؟ لا بد أن تشغلي هذا المحرك” وأشارت لرأسها.
أضافت الرابعة: “الحياة مضحكة! لأني عكس صاحبتنا الأولى تماما! فوالديّ لا يريدانني أن أكمل دراستي الجامعية لعجزهما عن تسديد المصاريف، لكني اجتهدت على حساب كل أولوياتي حتى حصلت على منحة هذه الجامعة العالمية”.
واستطردت الطالبة الأخيرة في ثلّتهن، وكانت مسموعة الرأي لديهن: “يبدو أن حصيلة النتائج ستكون كارثية هذه الدورة”، صرخت الفتيات جميعهن في وقت واحد: “ولماذا؟”، أجابت: “بديهي! فكل واحدة منكن لديها خطأ في فهم معنى طلب العلم”..
قاطعهن دخول الأستاذ المحاضر فأجلن الحديث إلى المساء. في المساء، اجتمعت الفتيات في غرفتهن المشتركة لاستيعاب مغزى الإشكال الذي أثارته صديقتهن حول “معنى طلب العلم”، فهن لم يتطرقن لهذا الموضوع من قبل، اللهم بعض الدروس المدرسية الخجولة التي مرت بهن مرور الكرام وانتهت بانتهاء الامتحانات.
بادرتهن بالسؤال: “هل أنتن طالبات علم؟” أجبن بصوت واحد: “لا نعرف! أليس طلب العلم هو الدراسة التي نتلقاها في الجامعة أو في المستويات قبلها؟”، ردت: “لا، ينقصها شيء”، قلن: “لقد شوقتنا لمعرفة كيف نصبح طالبات علم في دراستنا الجامعية؟”، قالت بابتسامة تلألئ وجهها: “أولا: تعظيم النية؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحتَها لطالِبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ، وإنَّ العالم ليستغفِرُ لَهُ مَن في السَّمواتِ ومن في الأرضِ، حتَّى الحيتانِ في الماءِ، وفضلَ العالمِ على العابدِ كفَضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العُلَماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنَّما ورَّثوا العلمَ فمَن أخذَهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ” (1). فإن عرفنا قيمة ما نطلبه من علم في الجامعة لم نذهب إليها مكرهين أو تحت ضغط أي أحد، بل نجدد النية وسينتعش حافزنا ذاتيا كل صباح لنحضر قبل حتى أن تبدأ المحاضرة. ثم إن “العلم نور، ونور الله لا يُهدى لعاصٍ” (2)، لذا لا يجتمع أن نطلب العلم ونترك الالتزامات الدينية كالصلاة والطهارة والذكر وغيرها من العبادات.. أو أن نجترح شتى التصرفات السيئة كالغش والكذب والتلفظ بالألفاظ البذيئة وغيرها.. فإذا جمعنا هذين الأمرين وعزمنا على الثبات عليهما كنا بحق “طالبات علم”. فهل توافقنني الرأي؟”.
ظهرت أسارير القبول والفرح والاستعداد على محياهن، وتغيرت بعد هذا المجلس حياتهن، فقد أصبح لها معنى وغاية عظيمة، فحظين بأعلى المعدلات وترقين أفضل الدرجات”.
(1) أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21715) باختلاف يسير.
(2) من شعر للإمام الشافعي يقول فيه:
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي ** فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ ** وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي