حكومتا الوردة والمصباح: التقاطعات والمآلات

Cover Image for حكومتا الوردة والمصباح: التقاطعات والمآلات
نشر بتاريخ

دروس التاريخ

“التاريخ يعيد نفسه”. مقولة سارية مسرى الأمثال، مفادها أن أحداثا مختلفة زمنا وربما مكانا تتفق أسبابا ونتائج، في إشارة إلى أن سنن الله في الكون لا تحابي ولا تجامل. وإنما وضعت علوم التاريخ لاستخلاص العبر والدروس ممن سبقوا استشرافا لغد أفضل، فالعاقل من اتعظ بغيره.

من هذا المنطلق نقف عند تجربتين سياسيتين لحزبين وزعيمين: عبد الرحمان اليوسفي وعبد الإله بنكيران اللذين اختلفا مرجعية وتصورا، وقادا حكومتين في ظرفين حاسمين من تاريخ المغرب الحديث.

حكومة الإنقاذ رقم “1”

في نهاية تسعينيات القرن الماضي، 1997، عيّن الملك الراحل الحسن الثاني عبد الرحمان اليوسفي زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وزيرا أول؛ قرار اعتبر وقتها في غاية الجرأة السياسية، إذ قرر النظام، مضطرا، تسليم مقاليد أمور البلاد للمعارضة تحت ضغوط شتى منها:

– شيخوخة النظام في شخص الملك الذي كان مؤشر حالته الصحية يتهاوى.

– هاجس انتقال السلطة وضمان سلاسة الانتقال.

– تأزم الأوضاع الاجتماعية وانسداد الأفق السياسي نتيجة حكامة غير راشدة.

في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية حرجة عنوانها “السكتة القلبية” تولى الزعيم الاتحادي مقاليد الحكم مع وقف التنفيذ، فالحزب الذي بهر المغاربة ببلاغة خطابه السياسي فضحا لسوء التدبير الحكومي وكشفا بالأرقام لتلاعب الحكومات المتعاقبة بمقدرات البلاد اكتشف أن ما كان بين يديه من معطيات على الحالة الاقتصادية ومستوى الاختلالات والمعضلات الاجتماعية لا يمثل الحقيقة، فالأزمة أعمق مما كان يتصور؛ وسيكتشف بعد توليه الأمور أن من يحكم ليس هو الحكومة.

تبين للرفاق أن النظام كان أذكى منهم، فقد عبر بهم أصعب مرحلة وأعسرها، فبهم تمكن النظام من:

– امتصاص الاحتقان الشعبي والالتفاف على مطالب الإصلاح الحقيقي.

– ضمان انتقال سلس للسلطة، حتى شاع بين الفئات الشعبية أن اليوسفي أقسم للحسن الثاني على القرآن الكريم أن يبايع ولي العهد بعد وفاته.

– استهلاك الرصيد السياسي للمعارضة وتوريطها في مستنقع إخفاقات عقود الاستبداد بالقرار.

– توظيف رمزية المعارضة تسويقا لحالة استقرار النظام السياسي حفاظا على الدعم الخارجي.

– تثبيت مركزية المؤسسة الملكية في المشهد السياسي.

– ربح الوقت لإعادة ترتيب أركان النظام وفق متطلبات “العهد الجديد”.

أهداف ومكاسب سياسية كبيرة حققها النظام مقابل:

– إحداث انفراج سياسي/حقوقي بعودة المبعدين وإطلاق سراح معتقلي الرأي باستثناء معتقلي العدل والإحسان الاثني عشر؛ فجماعة العدل والإحسان كانت وستظل خطا أحمر.

– جبر ضرر ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وإحداث صندوق رُصدت له الملايير من المال العام استفاد منه الرفاق أساسا.

انتهت ولاية الوردة، وخرج النظام من عنق الزجاجة وانتقلت البلاد لـ”عهد جديد” لم يعد في حاجة لخدمات وردة ذبلت وفقدت جاذبيتها.

حكومة الإنقاذ رقم “2”

في خضم الحراك الشعبي الذي تقوده حركة 20 فبراير الذي طالب بإصلاح سياسي حقيقي يقطع دابر الفساد ويستأصل الاستبداد ويؤسس لمغرب الحرية والكرامة اضطر النظام لتقديم حزمة إصلاحات أطرها باستفتاء فاتح يوليوز وتوَّجها بانتخابات 25 نونبر.

سياق عام غير مسبوق، فلواء المطالبة بالإصلاح ترفعه لأول مرة في المغرب معارضة شعبية، قاعدتها شباب ضاق ذرعا بالوعود والمبادرات التي لم توفر الحد الأدنى من الكرامة للمواطن، وفقدت الثقة في نخب سياسية شاخت، ويئست من لعبة سياسية صممت لإعادة إنتاج الفساد واحتكار الثروة.

تحت ضغط الشارع وانحناءً لرياح الربيع العربي جيء بدستور قديم جديد، وأجريت انتخابات سابقة للأوان اقتضت نتائجها أن يُختار حزب المصباح لتشكيل حكومة إنقاذ ثانية لذات الدواعي والأهداف التي نودي بسببها قبل 14 سنة على عبد الرحمان اليوسفي لتشكيل حكومة أريد لها أن تؤسس لـ”انتقال ديمقراطي” لم ينطلق قطاره بعد.

اليوم تتجدّد القصة، وفي ظرف حساس من عناوينه البارزة:

– تأزم الأوضاع الاجتماعية، تشهد بذلك مؤشرات التنمية، حيث كشف تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية لسنة2011 تقهقر مغرب مبادرات التنمية ومشاريع القرب بـ16 درجة في سلم التصنيف الدولي، ليحتل المرتبة 130 من بين187 دولة، والمرتبة 15 عربيا من بين 20 دولة عربية. مؤشرات تفيد أن نسبة الحرمان بالمغرب بلغت 45 %والسكان المعرضون لخطر الفقر 12.3%، والسكان الذين يعيشون في فقر مدقع 3.3%.

– هيمنة اقتصاد الريع وانسداد آفاق أي انتعاش اقتصادي تعضده الشفافية والتنافسية الشريفة.

– فقدان الثقة في دعاوى الإصلاح من داخل المؤسسات جلاه مسلسل تمرير الدستور.

في هذه الظروف تتِم المناداة على عبد الإله بنكيران لتشكيل حكومة إنقاذ ثانية من أجل:

– إعطاء الشرعية لحزمة الإصلاحات الملكية كما وصفتها الصحافة الغربية.

– امتصاص غضب الشارع واحتواء حركة 20 فبراير التي طالما سفه رؤاها التغييرية واتهمها بالانقلابية.

– تسويق نموذج ديمقراطي يتعايش مع “الإسلام السياسي المعتدل”.

– تقديم نموذج لتغيير سلمي.

– تمكين النظام من وقت مستقطع -بتعبير المعلقين الرياضيين- لإعادة ترتيب أوراقه.

أهداف مرحلية ضرورية علاوة على هدفين حيويين: استهلاك الرصيد السياسي لحزب ذي مرجعية دينية، يبدو في تقدير المخزن أن شعبيته تجاوزت الحدود المسموح بها، فالنظام يعتبر منافسته في الشعبية خطا أحمر؛ ومن خلال هذا الهدف يسعى النظام لتثبيت مركزية المؤسسة الملكية في الحياة السياسية، لعل من أبرز تجليات ذلك وتيرة التدشينات في أوج الصراع الانتخابي وبعيد الاقتراع في رسالة واضحة أن الذي يعمل في الواقع هو الملك وليس الأحزاب.

وإذا كان المقابل الذي دفعه النظام لضمان انخراط المعارضة اليسارية في حكومة إنقاذ 1997 هو إحداث انفراج في الشأن الحقوقي تقوية لموقف عبد اليوسفي حتى لا يبدو الانخراط مجانيا، فإنما سيدفعه النظام لحزب المصباح مقابل رصيده السياسي تنازلات شكلية على مستوى محدود في الإدارة الترابية وفي بعض المجالات التي خاض فيها الحزب معارك طاحنة: المهرجانات والإعلام المرئي ومظاهر الخلاعة نموذجا. تنازلات شكلية تذكر بقرار إعفاء وزير الداخلية الراحل إدريس البصري وتقديمه كبش فداء لما تغرق فيه البلاد من فساد.

المآلات

لو استقبل حزب الوردة ما استدبر من أيامه، هل كان سيقبل العرض المخزني الذي كلفه شعبيته وأفقده ثقة قاعدته وتعاطف فئات شعبية عريضة مع خطابه ومواقفه؟ وإذا قبل الانخراط، هل كان سيوقع للنظام على بياض ودون ضمانات وحد أدنى من الصلاحيات لتنفيذ برنامجه السياسي؟

حال الحزب اليوم غني عن التعليق، وهو، وإن بقي ضمن الأحزاب الخمسة الأولى، إلا أنه يفقد رصيده الشعبي باطراد. في هذا السياق سئل عبد الله العروي عن رأيه في دخول عبد الرحمان اليوسفي إلى حكومة التناوب فقال وقتها: ليس المهم كيف سيدخل إلى الحكومة ولكن كيف سيخرج منها). وقياسا على ذلك نقول: ليس المهم أن يقود المصباح اليوم في هذا الظرف الحساس حكومة إنقاذ ثانية يواجه فيها احتقانا وغضبا شعبيين غير مسبوقين عجز النظام بتجربة دهاقنته في احتوائها، ويرث تركة ثقيلة من الاختلالات والمعضلات الاجتماعية والاقتصادية، بل المهم هو: هل سيحافظ المصباح على توهجه أم إن زيته سينفد بُعيد شهور من تشكيل حكومة تدل كل المؤشرات أن مفاوضاتها مع بقية الفرقاء لن تكون نزهة.

هل سيعيد المصباح تجربة الوردة التي أفقدها مستنقع الفساد والتعفن المخزني عبقها وأريجها؟ ولم يتردد في رميها في مزبلة التاريخ بعد ذبولها؟ هل سيعيد التاريخ نفسه، كما يقال، مع المصباح بعد نفاذ زيته وخفوت توهجه ويستعيد المخزن حيويته وقدرته على المناورة؟ أم إن للشعب هذه المرة رأيا آخر في سياق الشعب يريد)؟ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. صدق الله العظيم، والحمد لله رب العالمين.