كانت تجلس كعادتها -بعد الفراغ من أشغال البيت- أمام الشاشة تتابع أخبار العالم. تتألم لكلّ مصيبة، وتفزع لكلّ هول، وتعطي رأيها المتواضع في النوازل. فداخل أسوار بيتنا هناك مجال فسيح لحريّة التعبير… أفسح بكثير من الفضاء الأزرق.
لكن منذ السابع من أكتوبر الماضي، أضحى جلوسها أمام التلفاز وردا يوميا. فتنادي على أختي طالبة منها أن تشعل الصندوق الأسود على قناة الجزيرة، ثم تجلس أرضا باسطةً قدميها المنتفختين -من عجزها عن المشي- واضعةً نظّارتها على عينيها الغائرتين لترى حجم الدمار الذي خلّفه الوحش الصهيوني في غزّة الأبية.
كنتُ جالسا في الغرفة الأخرى حينما سمعت نحيبها وتأوّهها، سرتُ نحوها مسرعا، ماذا هناك يا أماه… ما يبكيك يا غالية؟
أجابتني وشلّال دمع حارّ يجري من عينيها: “أبكي يا ولدي هذا اليتيمَ الذي لم يجد من يواسيه ويقدّم له العزاء… أبكي هذه المسكينةَ التي أفجعوها في الزوج والأبناء… أبكي هذه العجوز التي هدموا بيتها بما يحوي من أثاث وذكريات وتركوها في العراء.. أبكي هذه المكلومة التي تحمل رضيعها تهرول به نحو مستشفى الشفاء، وبعد لحظة تخرج صارخة تضمه إلى صدرها قد لفظ أنفاسه الأخيرة ورحل إلى دار البقاء… أبكي غزّة التي تخاذل عنها الإخوة وتكالب عليها الأعداء… أبكي على أمّة فقدت النخوة والمروءة والوفاء… أبكي على من فقدوا ضمائرهم ولم تبق فيهم ذرة حياة ولا حياء… أبكي… وأشكو بثّي وحزني إلى الله، والله سميع الدعاء”.
ثمّ التفتتْ إليّ أمي وقالت: “يا بني، ماذا نجيب الله تعالى حين يسألنا غدا يوم اللقاء:
هل رأيتم رضّعهم وقد تحولّوا إلى أشلاء؟ …
هل شاهدتم شيوخهم وقد ارتقوا شهداء؟ …
هل بلغتكم عنهم الأخبار والأنباء؟ …
هل سمعتم صرخات الصبية واستغاثة النساء؟ …
لمَ لمْ تجيبوا النداء؟ …
أين حقّ الأخوة الإيمانية …أين الولاء؟ …
لم أجد جوابا أقوله لأمّي فانصرفت صاغرا أتجرّع مرارة الذل وبسيلة الهوان، وداخل غرفتي -التي أوصدتُ عليَّ بابها- أطلقت العنان لبنات العين حزنا ألا أجد ما أعين به إخوتي عدا دعوات السحر، ومشاركة في وقفات ومسيرات منددة بالعدوان.
بعد سويعة… وبينما كنت هائما على وجهي أقلّب أوراق ضعفي وعجزي وتقصيري. طرقت عليّ أختي الباب -وقد كانت في المطبخ تطبخ طعاما أضحى بلا طعم منذ السابع من أكتوبر- قلت: نعم. قالت: تعال بسرعة لتسمع.
توجهنا صوب الوالدة التي كانت تصيح: الله أكبر… الله أكبر ولله الحمد…الله أكبر… جاء الحقّ وزهق الباطل… صدقنا اللهُ وعدَه ورسولُه.
قلت لها: ما بك يا أمّاه؟ …
قالت: «والله يا بني لقد تحقّق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجاء المسلمون من كلّ أقطار الأرض، من الطول ومن العرض، من إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا وأستراليا، حتى من القطب المتجمّد جاؤوا. فاجتمعنا في عسقلان، ثمّ زحفنا نحو القدس. كنتُ في كتيبة النساء. فهاجمنا اليهود وتصدّوا لنا، فقاتلناهم قتالا شديدا ومزّقناهم تمزيقا. والله يا بني… لقد صدقْنا اللهَ تعالى فصدَقنا، وأنطق لنا الحجر والشجر. فما اختبأ يهودي وراء شجرة أو صخرة إلاَّ وأخبرت عنه وقالت: «يا مسلمُ يا عبدَ اللهِ هذا يهوديٌّ خلفي، فتعالَ فاقْتلْه». لفظتهم الأرض فما عاد لهم مكان يلجؤون إليه، ولا جحر يختبؤون فيه. فهزمناهم بإذن الله. ودخلنا القدس ورفعنا راية الإسلام عاليا، وحججنا إلى المسجد الأقصى بمئات الآلاف، فصلينا فيه -أفواجا- صلاة شعرنا فيها بأننا خلف سيد الأولين والآخرين، إمام الغرّ المحجلين، يؤمنا كما أمّ -ليلة الإسراء والمعراج- الأنبياء والمرسلين».
ضحكت أختي حتى بدت نواجذها، وقالت: «لقد نمت يا أمّاه… وحلمت يا أمّاه… ورأيت ما يرجوه كلّ مؤمن ويتمنّاه».
قبّلتُ رأس الغالية -وأنا أدافع الدمع- وقلت: «هنيئا لك يا أمّاه الجهاد… وهنيئا لك النصر… وهنيئا لك الفتح».
ثمّ التفتّ إلى أختي وقلت: «على الأقلّ تملك أمّي -رغم شيخوختها- روحا مجاهدة… ونملك عكسها نفوسا عاجزة قاعدة. وهل يستوي القاعدون والمجاهدون!».
ثمّ جلستُ عند رأس أمّي ضاحكا، وقلت لها: «هذه المرّة لن أدعك تنامين، فقد أصبحتِ مشاغبةً… ولربّما سوّلت لك نفسك المشاركة في مسيرات رجال ونساء التعليم المطالبة بإسقاط النظام الأساسي… فتُحسبين على أعداء الوطن الحاقدين على أصحاب الحقائب والكراسي، الجّارين البلد إلى المآسي».
مع تحيات الوالدة.