بينما كنت أغطّ في سبات عميق، ناداني قلمي وقال: «أيها النعسان ألا تستفيق؟ قُم واكسرني فما عدت أطيق».
قلت: «ولم أكسرك يا قلمي؟ يا من أعبّر به عن أملي وألمي، عن اعتذاري وندمي، عن همّي وغمّي».
قام غضبان أسفا وقد أرغى وأزبد وقال: «أنا لم أر في الدنيا ميت قلب مثلك، اكسرني وانقض الذي بيني وبينك».
قلت متلطّفا مستعطفا: «لا يا رفيق عمري، يا كاتم سرّي، لا أستطيع فراقك، فقل لي ما يرضيك وأنا أفعله».
قال متبخترا -وقد وضع التاج الأزرق على رأسه-: «اكتب إذن!».
قلت: «ماذا أكتب؟ وعمّ أكتب؟».
قال وقد تدفقت دميعات زرقاء من عينه: «اكتب عن فلسطين، عن الجرح الدفين، عن شعب لا يلين، عن أمّة تستكين، عن طفل سجين، عن ألم بلا أنين، عن شوق وحنين، عن وأد جَنين وذبح جِنين…
اكتب عن غزّة، اكتب عن العزّة، عن خبّاب اليوم وبلال وحمزة، عن شعب أبيّ لم يظهر للعدو عجزه، بل أزّه وبزّه، وجزّه وحزّه…
اكتب عن روح الروح، عن أفئدة تنوح، عن أرواح تروح، عن ثكلى تبكي في صمت ولا تبوح، عن وائل الدحدوح، عن الإباء والدماء والشهداء وبناء الصروح، عن مجد لا يبنى بالطوب بل بخروج الروح…
اكتب عن أب يودّع ابنه الشهيد بعبارات الشوق إلى سيد الأنام: «يا أحمد… بلّغ رسول الله منّي السلام».
اكتب عن عدو متغطرس جاء ليطمس المعالم، ويذبح موسى، ويئد الأحلام… ظنّ ابن غزّة خروفا، فإذا هو ضرغام وأيّ ضرغام، أحال بياض نهار إلى ظلام».
قلت: «كفى أيها القلم، كفى، فهمت قصدك ومرادك، وسأكمل لك ما تريدني أن أكتب عنه:
أنت تريدني أن أكتب عن قوم اتبعوا المنهاج النبوي وساروا على الأثر، فرسان بالنهار رهبان في السحر، لبسوا الأكفان واقتحموا الخطر، جاهدوا عدوّهم بالسكين والخنجر والحجر… البيداء تعرفهم والخنادق والحفر، والمحاريب والمصاحف والسور…
أنت تريدني أن أتحدّث عن أناس من ماء وطين، لكنهم ليسوا كسائر البشر. عن شباب صرفت الملايير لتدجينه، وتهجينه، وسمّ عجينه، لكنّه ظلّ أصيلا ما تغيّر. عن أمهات ذكّرننا بأسماءَ والخنساءَ وأمّ عمارة وأمّ سليم وأمّ ذرّ…
أنت تريدني أن أكتب عن شعب انحنى له الصبر احتراما، وسجد له الثبات توقيرا وإكراما. تريدني أن أتحدّث عن أُسَر إذا اجتمعت مساءً تعانقوا وحمدوا الله، وإذا استفاقوا صباحا أحياء حمدوا الله، وإذا تفرقوا -بعد ذلك- ودّعوا بعضهم ودعوا الله، فإن عاشوا إلى المساء حمدوا الله، وإن استشهد بعضهم أو كلّهم رضوا بقضاء الله… والموعد الله.
أنت تريدني أن أكتب عن قوم تخاذل عنهم الجار، وأسلمهم “أهل الدار”، وباعهم الإخوة مقابل الدولار، فيئسوا ممّا في أيدي الناس وسلّموا أمرهم للواحد القهّار، فتولاهم سبحانه وتعالى بعنايته وقال: وَلَا تَحْسِبَنَّ اَ۬للَّهَ غَٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اُ۬لظَّٰلِمُونَۖ إِنَّمَا يُوَ۬خِّرُهُمْ لِيَوْمٖ تَشْخَصُ فِيهِ اِ۬لَابْصَٰرُ ووعدهم بالغلبة والانتصار، أخلصوا فخلّص الله -عز وجلّ- لهم جهادهم، وأبعد عنهم كلّ منافق خوّار…
أيها القلم؛ اسمع جيدا ما سأقول. لا تحسبنّ أنّي جبان أو رعديد، لكني لن أجاريك في كلّ ما تريد. سأكتب عن غزّة لكنّي لن أكتب عن التطبيع، لن أكتب عمّن يشري القضية ويبيع، لن أكتب عن حكام وأنظمة -لغير الله- تسمع وتطيع. لن أكتب عن مناهج التضييع، وبرامج التمييع، ووضعنا الوضيع…
لن تسمع منّي كلاما عن المعتقل، ولن أعبّر عن كرهي للغاشم المحتل، ولن أكتب عن الموازين ما خفّ منها وما ثقل، ولا عن المكاييل ما كثر منها وما قلّ، ولن أسلّط الضوء الأحمر على مواسم الخير التي جادت بها قريحة الخبل والهبل، وقام على تنظيمها عبدة نِتنْهُبَل…
قلمي الحبيب؛ لعلّك لا تطيقني، ولعلّي لا أُحْتَمَل. لكنّي… لن أكسرك، ولن أهجرك، ولن أخذلك وسأجاريك فيما تريد… لكن دون أن تُعتقل”.