حوار مع ذة. البوكيلي | الأسرة في رمضان.. انجماع على الله يصلح حالها وحال الأمة

Cover Image for حوار مع ذة. البوكيلي | الأسرة في رمضان.. انجماع على الله يصلح حالها وحال الأمة
نشر بتاريخ

أجرت بوابة العدل والإحسان حوارا مطولا مع الأستاذة تورية البوكيلي، عضو الهيئة العامة للعمل النسائي التي تنظم حملة إعلامية واجتماعية حول الأسرة في الفترة الممتدة بين 9 رمضان و19 منه، متحينة فرصة رمضان المبارك بما يمثله من وقت خير سانح لتقوية وشائج العلاقات الأسرية. كيف نستغل هذه النفحات؟ وما دور الوالدين في غرس القيم الدينية في أبنائهما خلال هذا الشهر الفضيل؟ كيف نجعل عاداتنا الأصيلة تصب في خدمة هذا الهدف؟ وكيف نجعل خير الأسرة يتعداها إلى محيطها الاجتماعي، بل وإلى أمتها الإسلامية؟ أسئلة وأخرى تجدون إجابتها في هذا الحوار الشيق.


لرمضان وأجوائه الروحانية تأثير بالغ على النفوس، كيف نستغل هذه النفحات من أجل تقوية العلاقات الأسرية؟

بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، أود أن أتقدم بأسمى التهاني وأطيب التبريكات لأمتنا الإسلامية، سائلين المولى عز وجل أن يمنحنا جميعا الصحة والعافية، وأن يعيننا على أداء واجباته، وأن يتقبل صيامنا وصالح أعمالنا، وأن يعيده علينا بالخير واليمن والبركات.

يأتي رمضان وتأتي معه كثير من المشاعر الروحانية التي تزيد من الألفة بين الأقارب وأفراد العائلة، ويشهد هذا الشهر اللمة الجميلة التي تجمع شمل الأهل والأقارب والمعارف، وتعيد الحياة لعلاقتهم، في جو تسوده روح التسامح والمودة والمحبة. فشهر رمضان هو شهر الأسرة بامتياز، فهو الشهر الذي يجتمع فيه أفراد الأسرة على مائدة الإفطار، فبينما تتضارب المواعيد والالتزامات على مدار العام، يأتي شهر الصيام لجمع الشمل دون عناء، ولا أحد منا ينكر أهمية هذه اللمة في بناء وتعزيز العلاقات الأسرية.

 يأتي شهر رمضان بعطره وما يحمله من معانٍ جميلة، ليضفي على الحياة الأسرية مزيدا من البريق والإشراق، ويمسح عنها غبار الخلاف والشقاق، عندما تتقارب القلوب، وتسمو الأرواح، ويخرج أفراد الأسرة من هذا الشهر أكثر محبة ومودة. ومن الأمور التي تساعد على تحقيق ذلك:

تهذيب النفس

عندما نتأمل في تشريع الصيام والآيات التي جاءت في الأمر به نجد أن الله ربطه بالتقوى والورع، والمطلوب من أفراد الأسرة تعميق هذه المعاني في أنفسهم، مما يجعلهم يراقبون الله في كل تصرفاتهم وأفعالهم. وللتقوى في الإسلام مكانة رفيعة، وفضلها عظيم؛ فهي الأساس الأول الذي تنبني عليه العلاقات الأسرية، إذ هي المساحة الصلبة التي سيبنى فوقها بنيان العائلة المرصوص ولتسود الألفة وتشع أنوار المحبة، وبذلك يحقق الانسجام قواعد الحقوق والواجبات، ويرسي ثوابت المساواة الكاملة بين كافة مكونات الأسرة. ومن هنا وجب على أفراد الأسرة استحضار معاني التقوى من خلال إقامة حدود الله وشرعه في بناء العلاقات الأسرية.

تغيير السلوك

الكثير من العادات السيئة صفات لصيقة بالإنسان، وكثير من يعلمون ضررها ويدركون خطرها ولكنهم يظلون في قيدها، لأنه كما هو معلوم للعادات نفوذا على النفوس، وسيطرة على القلوب، وهي تتركز في الإنسان فتصبح كأنها طبيعة من طبائعه، لا يستطيع التخلص منها. فتغيير السلوك والتخلص من العادات السيئة كالانفعال والغضب أساسه قوة الإرادة، وشهر رمضان مدرسة تربوية يتدرب فيها المسلم على تقوية إرادته في التخلص من الطبائع الحادة التي تهدد متانة الروابط الأسرية.  لذا وجب على أفراد الأسرة استثمار فضائل الشهر الكريم في التفاعل الإيجابي من خلال فتح منافذ التواصل والحوار والمواساة، وهذه الأشياء من السهل أن يكون حضورها قويا خلال الثلاثين يوما المباركة، وبهذا تكون بداية حقيقية لرحلة جديدة مع التفاهم والتقارب والتلاحم.

ما هو دور الوالدين في تعزيز القيم الدينية وعلى رأسها العلاقة بالله تعالى في نفوس الأبناء خلال هذا الشهر الكريم؟

شهر رمضان فرصة للأسرة لتربية الأبناء وغرس الهوية الإسلامية والقيم والأخلاق والسلوك، من خلال تجربة روحية عملية طويلة، تمتد ثلاثين يوما بلياليهن. وما يؤكد دور الأسرة في تلك التنشئة الرمضانية، هو تهيب الغالبية العظمى من الإفطار في رمضان، أي إن الصوم تحول إلى عادة راسخة في الوجدان المسلم من الصعب إهدارها، ولعل ذلك يرجع إلى دور الأسرة، التي نقشت منذ الصغر قداسة هذا الشهر، ووجوب صيامه، وكذلك الالتزام بجملة من الأخلاق والسلوكيات حتى يكون الصوم مقبولا. ومن هنا يتجلى لنا دور الوالدين في تعزيز القيم الدينية في نفوس أولادهما، وذلك عبر:

1. الحديث عن الله والتقرب إليه

إن من أولويات الوالدين تربية طفلهما منذ نشأته على الارتباط بالله عز وجل، لأنها تمثل قاعدة الانطلاق لما بعدها من مجالات تربية الطفل. يقول الإمام رحمه الله: “إن نوعية الصلة في الأسرة بين الوالدين والمولودين، وصدق التوجيه، وحنان المشفقة والمشفق على البنات والبنين ينبغي أن تعكس روح الولاء لله رب العالمين، والبراء من أعداء الله المارقين… ما لهذه الأجيال المُضَيَّعة لا تكاد تميز بين الحق والباطل، بين الشرك والإيمان؟ انقطع حبل فصِليه، وتلوثت بيئة فطهِّريها” 1.

فالطفل الذي ينشأ على الإيمان بالله ويتربى على الخشية منه والمراقبة له تصبح عنده الملكة الفطرية والاستجابة الوجدانية لتقبل كل فضل ومكرمة واجتناب كل إثم ورذيلة. لذا يجب على الوالدين تخصيص أوقات للتحدث مع أبنائهم عن معاني القرب من الله، وكيفية تحقيق العلاقة الطيبة معه من خلال الدعاء، والتوبة، والعمل الطيب. ورمضان هو وقت مناسب لتعزيز هذه الروح الإيمانية في قلوب الأبناء. وصورة هذا الأصل التربوي العظيم نجده في ثنايا كلام لقمان لابنه وهو يعظه، فعرض عليه أول ما عرض من الوصايا هو النهي عن الشرك معللا إياه بأنه ظلم عظيم، وأول واجب من الوالدين تجاه ابنهما هو غرس العقيدة الصحيحة؛ فهي الأساس لبناء إيمان الولد وتصوراته وأفكاره. 

2. التعليم والممارسة

من مهام الوالدين تعليم الطفل بحسب ما تقتضيه مراحل نموه، فيُعلمانه كل ما ينفعه، ويقوي جسده، ويهذب سلوكه وينمي فكره. ويرتكز الوالدان في هذا الشهر الفضيل على تعليم الأبناء أركان وأهمية العبادات، كصيام رمضان وأداء الصلاة وقراءة القرآن الكريم. ويجب عليهم أيضا أن يشركوا أبناءهم في الأنشطة الرمضانية مثل إفطار الصائم وأداء صلاة التراويح، لكي يشعروا بأنهم جزء من هذه العبادة المهمة.

صحيح أن الطفل غير مكلف بالعبادات ولا يعاقب على تركها إلى حين البلوغ على اعتبار أنه: “رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم”، إلاّ أن أداءه لها من سبيل الاعتياد والتدريب؛ حتى إذا بلغ سن التكليف الشرعي كان على معرفة بهذه العبادات ومهيأ لها دون أن يشعر بعبء التكليف أو ثقله. وهذا الأمر ظاهر من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُم عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ” [رواه الترمذي]. وتتم عملية التعلم من خلال الطرق التالية:

o التوجيه بأسلوب سهل مباشر، يتناسب مع قدرته على الفهم، معتمدا على كلمات مختصرة مفيدة.

o التلقين؛ أي نقل المعارف للطفل، وهو تقديم تعليمات لفظية كقول الوالدين لولدهما “قل الحمد لله”.

o التعويد؛ ومعناه أن يدرب الطفل على فعل أشياء وقول أخرى حتى يعتادها أو يحفظها.

3. التدريب على القيم الدينية

التي هي مجموعة المبادئ الخلقية والفضائل السلوكية التي يجب أن يتلقنها الطفل ويكتسبها ويتدرب عليها، لتهذيب إرادته وتوجيهها للخير، ولتنبيهه إلى القيم حتى يكسب مكانه منها. ومن القيم التي يسهل غرسها في الطفل خلال شهر رمضان:

o تعريف الأبناء بمعاني التقوى من خلال زرع حب الله في قلوبهم وتنمية جانب الاحتساب عنده.

o تعليم الأبناء قيمة الصبر عبر تعويدهم صوم نهار رمضانَ المبارك بعضه أو كله حسب عمر الطفل وطاقته.

o تنمية حس المشاركة لدى الأبناء من خلال مشاركتهم من حولهم في شعائرهم؛ كالسحور، والإفطار، والقيام…

o تشجيع العمل التطوعي عبر تحفيز الأبناء على المشاركة في الأنشطة الخيرية خلال شهر رمضان.

ومن المهم أيضاً أن تقترن عملية غرس القيم الدينية لدى الأبناء بالمكافآت والجوائز التشجيعية في نهاية يوم الصوم، أو في نهاية الشهر الكريم. والمكافأة هي من أنجح الطرق لترسيخ السلوك الذي يراه الوالدان مفضلا ويريدان أن يحفزاه لدى طفلهما. وقد تكون في غاية البساطة كأن لا تتجاوز المدح بكلمات طيبة ومشجعة، وإما أن تكون في صورة هدية، أو حتى تلبية لرغبة معينة. ومثال ذلك إحضار بعض الهدايا له في بداية الشهر، لتحمل معها معنى عظيماً، وهو أن هذا الشهر يأتي ومعه الخير.

4. القدوة الصالحة

هي أس التربية وعمادها، وإنّ أحوج ما يحتاجه الناشئ أن يرى القدوة الحسنة فيمن حوله، وذلك أن الأبناء يتعلمون بالقدوة الحسنة أكثر مما يتعلمون بالكلام وغيره، وهذا أمر ملموس لا يحتاج لإقامة الدليل عليه. فالطفل يعتبر الوالدين نموذجا مثاليا يحتذى به. فهو عندما يشاهد سلوكا كيف ما كان يتأثر به ويحاول تقليده. ولابد أن تكون القدوة مثالا طيبا وراقيا، حتى يكون الصورة التي يجب أن تنطبع في الطفل بما يرفع من مستواه الأخلاقي ورقيه في التفكير والتعامل مع الآخرين.

وهنا يحضرني ما قاله الإمام الشافعي لأبي الصمد مؤدب أولاد هارون الرشيد: “ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما تستحسنه والقبيح عندهم ما تكرهه” 2. ومن هنا وجب على الوالدين أن توافق أقوالهم أفعالهم، فعادة ما يقوم الأبناء بعقد مقارنة بين ما يقال لهم من قبل والديهم وبين سلوكهما الفعلي؛ فإذا لاحظ الابن وجود تناقض بين ما يقال له وما يفعل فإنه يفقد كذلك القدرة على التمييز بين ما هو صحيح وما هو خطأ.

فهلا تقترحون محطات تجمع الأسرة في هذا الشهر الكريم، مع مراعاة الالتزامات اليومية لكل الأطراف؟

من المهم أن يكون هناك توازن بين الالتزامات اليومية والأوقات التي يمكن قضاؤها مع الأسرة في هذا الشهر الكريم، وتحقيق هذا التوازن يتطلب من الأسرة تحديد الأوقات المشتركة بين أفرادها، باعتبارها من العوامل الرئيسية في بناء العلاقات القوية والمترابطة بينهم. فعندما يقضي أفراد العائلة وقتًا مشتركًا، يتاح لهم الفرصة للتواصل والتفاعل مع بعضهم البعض وتعزيز التواصل بينهم.

كما يساعد الوقت المشترك على إنشاء ذكريات جميلة وممتعة معًا، مما يزيد من قوة الروابط العائلية والانتماء إلى الأسرة. لذلك، ينبغي على الأسرة أن تعتبر الوقت المشترك أولوية وتعمل على تخصيص الوقت والجهود للاستمتاع بلحظات مشتركة. كما يجب تفهم احتياجات كل فرد في الأسرة واهتماماته والعمل على تلبيتها، وذلك بتخصيص وقت للاستماع إلى آراء وأفكار الأفراد. وهناك عدة سبل يمكن اتباعها لاستثمار الوقت المشترك وجعله أكثر فاعلية ومتعة. ويمكن تحقيق ذلك عبر بعض المحطات التالية:

التعاون في تحضير الطعام، في العديد من الأسر، يقوم الأفراد بالمشاركة في تحضير الطعام معا، مما يعزز من الروح التعاونية والعمل الجماعي داخل الأسرة.

صلاة التراويح، يمكن للعائلة أن تتوجه إلى المسجد معا لصلاة التراويح أو أداء الصلاة في المنزل إذا كانت الظروف تتطلب ذلك. هذه فرصة للتواصل الروحي في جو جماعي.

قراءة القرآن، يمكن تخصيص وقت من اليوم لقراءة القرآن الكريم معًا، سواء كان ذلك قبل الإفطار أو بعد صلاة التراويح. هذا يعزز روحانية الشهر ويساعد الأسرة في التأمل والاتصال بالله.

الأنشطة العائلية بعد الإفطار، بعد تناول الإفطار وصلاة التراويح، يمكن تنظيم أنشطة عائلية مثل مشاهدة برنامج ديني معا أو تبادل الأحاديث والتجارب الرمضانية.

العمل التطوعي، يمكن أن يتم تحديد يوم في الأسبوع للمشاركة في أنشطة تطوعية معا مثل توزيع الطعام على المحتاجين أو المشاركة في العمل الخيري، هذه الأنشطة تشجع على تعزيز العلاقات بين أفراد العائلة وتدعم مفهوم التعاون والمشاركة.

المشاركة في فعاليات ثقافية ودينية، يمكن للأسرة حضور الدروس الدينية أو المشاركة في فعاليات رمضان الثقافية التي تقام في المساجد أو المراكز المجتمعية، ما يسهم في تعزيز الانتماء المجتمعي وتبادل الخبرات الدينية.

وباستخدام هذه السبل، يمكن تحسين الوقت المشترك بين أفراد العائلة وجعله مغذيا للعلاقات الأسرية.

تسم المجتمع المغربي عادات وتقاليد خاصة ترتبط بهذا الشهر الفضيل، كيف نجعلها تصب إيجابا في تقوية الروابط الأسرية؟

يعتبر شهر الصيام واحدا من المناسبات الدينية التي تكتسي طابعا خاصا بالنسبة للأسر المغربية، وذلك بالنظر لما يتميز به هذا الشهر الكريم من عادات وطقوس، والتي تعكس تقديس المغاربة لهذا الشهر، ونلمس هذا الأمر في تجند المغارية لتأثيثه بممارسات ذات طابع تعبدي وسلوكي واجتماعي واقتصادي أيضاً. وتتنوع طقوس وعادات الاحتفاء بالعواشر في المغرب، وتبدأ أواخر شعبان مع تنظيف البيوت والمساجد، وشراء أوانٍ جديدة لاستقبال الشهر الفضيل. كما يعد الزي التقليدي من تفاصيل رمضان التي يتمسك بها المغاربة، فيحرصون رجالا ونساء وأطفالا على ارتدائه خلال الزيارات العائلية والتسوق، وعند أداء الصلوات في المسجد.

وتعد هذه التقاليد الرمضانية وسيلة فعالة لتعزيز الروابط الأسرية؛ نظرا إلى أن الطقوس المرتبطة بأجواء رمضان تعني الراحة النفسية والاستقرار والمشاركة داخل الأسرة، فهي تبني وتدعم العلاقات الأسرية على أساس أنها استراحة قصيرة في ظل الروتين اليومي المكتظ. وتعتبر هذه التقاليد لحظات مميزة في حياة كل فرد وخاصة الأطفال، حيث يشعرون بسعادة لا يمكن تفسيرها، فهي لا تقتصر على كونها مجرد أفعال رمزية، بل تعد بمثابة الجسور التي تربط بين الماضي والحاضر، وتنقل القيم والمعاني بين الأجيال المختلفة.  عندما نتحدث عن الطقوس، نتحدث عن تلك الأنشطة التي تتم بشكل متكرر وفقا لنمط محدد، والتي تحمل في طياتها القيم الدينية والاجتماعية للأسرة.

كما أن هذه الطقوس ترسخ لدى أفراد الأسرة الشعور بالهوية والانتماء، فهي وسيلة لنقل القيم من جيل إلى آخر، عبر نسج ذكريات جميلة يتم تذكرها وتناقلها عبر السنين، لذا تعتبر التقاليد الرمضانية من الفرص الذهبية التي يجب استثمارها بصورة كبيرة لإعادة الترابط الأسري بين جميع أفراد الأسرة، بعيدا عن العالم الافتراضي الذي أصبح يشغلنا ولا يجعلنا نلتفت إلى بعضنا البعض.

ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن دور الأسرة في الاستعداد الأمثل لرمضان كمدرسة تربوية لتحقيق التقوى وتهذيب النفس واكتساب فضائل الأخلاق، حتى لا تفضي بعض العادات الرمضانية إلى الخروج عن مقاصد شهر رمضان التربوية، وتحويله إلى شهر للتسلية والأكل والشرب، ومتابعة المسلسلات والبرامج التي تعد لها الفضائيات إعدادا خاصا، لصرف العباد عن أهداف الشهر وغاياته. وبناء على ذلك فإن استعداد الأسرة لرمضان ينبغي أن يضع في اعتباره كل هذه التحديات وكيفية التعامل معها، وكيفية تحقيق بعض التسلية المشروعة وتوظيفها في الترويح عن النفس.

في هذا الشهر عبادات ومعان وقيم وأركان في ديننا؛ كالقيام وقراءة القرآن والزكاة والإنفاق، ما السبيل إلى أن نجعلها شأنا أسريا جماعيا ومحطة للتربية والتزكية ولـ”لمة الأسرة” ولا تكون حبيسة الآباء أو منحصرة في اجتهادات كل فرد؟

لجعل العبادات والقيم في شهر رمضان شأنا أسريا جماعيا، ينبغي بناء جو من التعاون والاهتمام المشترك داخل الأسرة، وتحفيز الجميع على المشاركة في العبادات والأعمال الرمضانية بشكل جماعي. ويمكن تحقيق ذلك من خلال السبل التالية:

التهيئة النفسية لاستقبال شهر رمضان

إن شهر رمضان من أعظم مواسم الخير التي قدمها الله سبحانه وتعالى لعباده، وهو من الأشهر العظيمة التي هيأ الله فيها النفوس والقلوب للإقبال عليه سبحانه، لذا وجب على الأسرة الاستعداد له عبر استحضار المفاهيم الإيمانية الواعية، التي تشد النفوس وتهيئها للإقبال على شهر رمضان، بقلب واع بعظمة وأهمية هذا الشهر، ودوره في عملية الهداية كمحطة سنوية لا غنى عنها.

والتهيئة النفسية للصيام تكون بمعرفة فضائل شهر رمضان الكريم، وبمعرفة ما ينتظرنا من ثواب كبير، وفضل عظيم، وذلك بإمعان النظر في النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، في فضائل الشهر، والتأمل في آثاره العاجلة، والآجلة، والتفكر في مقاصده، وثمراته. فإذا امتلأت النفس بهذه المعاني، صار ذلك زادا لأفراد الأسرة، يمدهم بالقوة إلى آخر الشهر، ويغذيهم بالعزيمة، والثبات.

التخطيط العملي المشترك

يعتبر التخطيط في النظام الأسري عملا ضروريا لا سيما في عصرنا الحالي، الذي تطور فيه أسلوب الحياة وتعددت مطالبها، وهو وسيلة لإدراك غاية، والغاية هنا هي إدماج أفراد الأسرة في الأعمال الرمضانية، خاصة التعبدية منها بغرض كسر الحواجز النفسية وتوثيق الروابط الأسرية. وهذا الأمر يستلزم وضع خطة واضحة، ممكنة التنفيذ، يشترك جميع أفراد الأسرة في تحديد معالمها، وذلك لأن المشاركة في التخطيط غالبا ما تساعد على إنجاح أي خطة وتضع الجميع في موضع المسئولية.  

وللتخطيط الأسري قواعد علمية يجب اتباعها حتى تتمكن الأسرة من الوصول إلى غاياتها وتطلعاتها المستقبلية التي تسعى دائما للوصول إليها، بالإضافة إلى إدماج الأبناء في مشاريع العائلة؛ مما يزيد من تحمله للمسؤوليات ويوثق الروابط الأسرية. وعليه يمكن للأسرة أن تضع خطة عبادية جماعية تتضمن الأنشطة التي سيتم تنفيذها في الشهر الكريم، مثل تحديد وقت ثابت للقيام أو قراءة القرآن معا، أو تخصيص أوقات للأذكار والأدعية مثلا.  

التعاون الأسري

التعاون الأسري هو عملية تفاعل إيجابي بين أفراد الأسرة تهدف إلى تحقيق أهداف مشتركة. ويتضمن التعاون الأسري توزيع المهام والمسؤوليات بين الأفراد، وتشجيع التواصل المفتوح والصريح، ودعم بعضهم البعض في مختلف جوانب الحياة. ويلعب التعاون العائلي دورا حيويا في تعزيز العمل الجماعي، فهو يجمع بين نقاط القوة ووجهات النظر للأفراد ويعزز التواصل الفعال، ويخلق شعورا قويا بالالتزام والتفاني. ويسهم التعاون الأسري في تنمية الشعور بالانتماء الفعلي للأسرة، وبالتالي يسهل على أفرادها الانخراط الكلي في شؤونها الحياتية منها والتعبدية.

التقدير وتقديم المكافآت 

التقدير وتقديم المكافآت يعزز من دافعية أفراد الأسرة ويشجعهم على الانخراط في الأعمال الرمضانية؛ عبر الحصول على مكافآت وحوافز مُعينة عند إنجازها، بحيث تتحول تلك العملية إلى منافسة ودية تزيد الشعور بالمتعة وروح المنافسة بين الأفراد. يمكن أن تتخذ المكافآت والحوافز أشكالا مختلفة؛ فقد تكون بسيطة ورمزية. إضافة إلى ذلك، يمكن استخدام الإشادة والتقدير كوسيلة فعالة لضمان استدامة الأعمال الرمضانية.

وبهذه السبل يمكن لأفراد الأسرة تهيئة بيئة أسرية تشجع على ممارسة العبادات والأنشطة الرمضانية بشكل جماعي، وهذا الأمر سيؤدي لا محالة إلى تماسك الأسرة.

أمام تزايد انكفاء الأسر على نفسها وتراجع علاقات الجوار، كيف يمكن استثمار شهر رمضان لتعزيز الروابط مع الأصدقاء والجيران وأفراد المجتمع، مع إسهام جميع أفراد الأسرة في هذا الخير؟

إلى الزمن الجميل تحملنا حكايات الآباء والأجداد لنستعيد من خلالها ذكريات وملامح الحياة في بلدنا الحبيب، في فترة ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي، مثل العادات والتقاليد التي كانت سائدة في المجتمع، والتعاملات اليومية بين الناس، وكيف كانوا يحتفون بالشهر الكريم في أجواء روحانية يسودها الودّ والتراحم والتعاون. لكن مع الأسف بدأت هذه المشاهد تنحسر بسبب تزايد انغلاق الأسر على نفسها وتراجع علاقات الجوار.  ومما لا شك فيه أن العادات القديمة ليست مجرد أفعال من الماضي، بل هي جزء من تاريخنا، وتحمل قيما هي من صميم ديننا.

كما أن هذه العادات بإمكانها أن توفر لنا الكثير من الفوائد إذا ما أعدنا اكتشافها وإحياءها، من هنا وجب استثمار شهر رمضان لإحياء الروابط الاجتماعية من خلال عدة طرق، منها:

الزيارات المتبادلة، فهي من أهم وأبسط أفعال الخير التي يمكن أن يقوم بها الجميع، ولها انعكاس كبير في تقوية العلاقات والقرابة وتوطيد مشاعر الألفة. فرمضان فرصة ذهبية لإعادة الدفء لمثل هذه العلاقات التي قد تُنسى مع زحمة الحياة.

تقديم الهدايا، فهو وسيلة تسمح لنا بإظهار التقدير والحب لأحبائنا، سواء أفراد العائلة أو الأصدقاء أو الجيران، والغرض منها تعميق شعور بالانتماء والتلاحم بين الناس، مما يُعزز بناء مجتمع مترابط ومتكافل عبر ترسيخ قيم السخاء والتضامن في قلوب الناس. ومن الهدايا الرمضانية الشائعة سجادة الصلاة، القرآن الكريم، فانوس رمضان…

تنظيم إفطارات جماعية، فهي وسيلة لإحياء مكارم الأخلاق بصورة عملية في المجتمع، وتعيد الود والمحبة في قلوب الناس، ويحمل الإفطار الجماعي في طياته الكثير من المعاني الإنسانية السامية في الخير والعطاء، حيث يجتمع الناس للمشاركة في هذه التجربة الدينية المميزة، ويتبادلون التجارب والأحاديث، مما يعزز التواصل والتآلف بينهم.

مبادرات الخير المجتمعية، فهي وسيلة فعالة للمساهمة في حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وتحسين الظروف المعيشية للأفراد. ويمثل شهر رمضان فرصة فريدة لتعزيز روح التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع. عندما يشارك الجميع في أعمال الخير، تتعزز العلاقات الاجتماعية وتصبح الروابط بين مختلف شرائح المجتمع أكثر تماسكا.

من خلال هذه الأنشطة، يمكن للأسرة أن تساهم في خلق بيئة مجتمعية أكثر تضامنا، فشهر رمضان هو الوقت الذي نستطيع أن نحقق فيه التكافل الاجتماعي بأبهى صوره.

هل من أمثلة منهضة في هذا المجال من سيرة رسولنا الكريم وصحابته وتابعيه من صالحي الأمة؟

عاش رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حياته المباركة في شهر رمضان العديد من المواقف المميزة التي تركت آثارا كبيرة في التاريخ الإسلامي. وكان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تقوية العلاقات الاجتماعية مثالا يحتذى، وهذا ما نلمسه في حياة الصحابة والتابعين من صالحي الأمة، حيث سعوا إلى اقتفاء أثر رسولنا الحبيب، وعملوا على إحياء سنته. وهناك العديد من الأمثلة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيهم في مجال تقوية العلاقات الاجتماعية خلال شهر رمضان. هذه الأمثلة تمثل نماذج رائعة للتواصل الإنساني والتراحم الاجتماعي في هذا الشهر الفضيل، وأذكر منها الآتي:

التهنئة والتواصل بين المسلمين: كان الرسول الكريم والصحابة يتبادلون التهاني والدعوات الطيبة في شهر رمضان. والدليل على ذلك: حديث محمد بن مسلمة الأنصاري رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إِنَّ لِرَبِّكُمْ في أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّهُ أن يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا” [رواه الطبراني].

القيام بصلاة التراويح جماعة: ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى التراويح جماعة في المسجد عدة مرات، ثم تركها خوفًا أن تفرض على أمته، حيث جاء في حديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس في المسجد ثلاث ليالٍ، فلما كانت الليلة الرابعة، اجتمعوا فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: “قد علمت الذي صنعتم، فلا تفعلوا، فإنه من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها” [صحيح البخاري]. وبعد ذلك، كان الصحابة يصلون التراويح جماعة في المسجد، وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو من جمع الناس على إمام واحد لصلاة التراويح، حيث كان يرى أن ذلك أسلم لأمته. 

الإفطار الجماعي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشجع على إفطار الصائمين، وتبادل الطعام بين المسلمين. كان الصحابة يتسابقون في إطعام الفقراء والمحتاجين خلال هذا الشهر المبارك.  وحديثه صلى الله عليه وسلم: “من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره، غير أنه لا ينقصُ من أجر الصائمِ شيئًا” (سنن الترمذي) يدل على مدى أهمية العمل الخيري وتقديم المساعدة للآخرين.

دعم العلاقات الأسرية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشجع على تقوية الروابط الأسرية في رمضان، حيث كان يُولي اهتمامًا خاصًا لتهنئة عائلته وأصحابه وأفراد المجتمع. حتى أثناء فترة الصيام، كان يشجع على التواصل الأسري وتبادل الزيارات والبر.

تعزيز الصلة بالأقارب والجيران: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على زيارة أقاربه وجيرانه في رمضان، ويوصي المسلمين بذلك. فقد ورد أنه كان يكثر من الزيارة للعائلات المحتاجة ليعزز التكافل الاجتماعي بين الناس. وكان الصحابة يحرصون على تقديم المساعدة للفقراء والمحتاجين خلال شهر رمضان، فهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُشرف بنفسه على توزيع الطعام والصدقات على الفقراء.

الاعتناء بالمساجد ومرافقها: كان الصحابة يساهمون في بناء وصيانة المساجد. الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه كان قد قام بتوسيع المسجد النبوي في رمضان، وقد جعل ذلك تعاونا مجتمعيا يعزز روح الجماعة ويزيد من التلاحم بين المسلمين.

في جماعة العدل والإحسان ما هي البرامج التي تقترحونها على أعضائكم وعموم المغاربة لتعزيز العلاقات الأسرية والاجتماعية في رمضان وفي سائر الشهور؟

في جماعة العدل والإحسان، نسعى دائما إلى تعزيز العلاقات الأسرية والاجتماعية في رمضان وفي سائر الشهور من خلال مجموعة من البرامج والمبادرات التي تهدف إلى بناء مجتمع متماسك، وتحقيق التوازن بين الحياة الفردية والاجتماعية. فيما يلي بعض البرامج التي يمكن اقتراحها:

البرنامج الاحتفالي الذي هو خطة عملية، هدفها الاحتفال بقدوم شهر رمضان، وتعميق معانيه الروحية، وترسيخ مبدأي الإشراك والتفويض. وذلك من خلال اجتماع الأسرة لوضع هذا البرنامج، كل فرد يعطي رأيه في كيفية الترحيب بهذا الضيف العزيز، الصغير يقول رأيه مثله مثل الكبير، ويُحترم رأيه، وتسجل كل الاقتراحات، وكل صاحب اقتراح يعتبر مسؤولاً عن كيفية تنفيذ اقتراحه ومتابعته، ثم تقييمه في حفل الوداع. ومن الاقتراحات العملية أذكر: تصميم بطاقات المعايدة، تنظيف وتجهيز البيت، تزيين البيت بزينة رمضانية، شعبانة، إعداد ملابس خاصة، التطلع للهلال مع الأسرة، إشاعة الفرح وتبادل التهاني بعد دخول الشهر.

البرنامج التعبدي الذي هو خطة عملية، هدفها الارتقاء الإيماني، وإشاعة روح التنافس على الطاعات، ومفادها مشاركة أفراد الأسرة جميعا في إعداده، وشرط تحققه قابليته للتنفيذ، ويتوزع هذا البرنامج بين الصلوات المستحبة وتلاوة القرآن الكريم والأذكار والأدعية الرمضانية. ومن الاقتراحات العملية أذكر: ختمات قرآنية جماعية، حلقات الذكر العائلية، مقرأة جماعية للأسرة، الاجتماع على أذكار المساء قبل المغرب، صلاة التراويح في المسجد، قيام الليل جماعة..

البرنامج الاجتماعي الذي هو خطة عملية، هدفها التواصل الاجتماعي وإحياء قيم اجتماعية وتعلم مهارات متنوعة، ومنتهاها خلق بيئة اجتماعية دافئة ومترابطة في رمضان، مما يعزز قيم التعاون والمحبة والرحمة بين أفراد المجتمع. وتتوزع مواد هذا البرنامج بين تنظيم زيارات واستضافات رمضانية، الأنشطة الاجتماعية والتوعوية، مساعدة الفقراء والمحتاجين، سهرات وخرجات عائلية. ومن الاقتراحات العملية ما يلي: بطاقة تهنئة، في بيتنا صائم جديد، قفة رمضان، مائدة الرحمان، سمر عائلي.

البرنامج الاقتصادي الذي هو خطة عملية، هدفها ترشيد الإنفاق وتوجيه الاستهلاك وترسيخ قيمة الاقتصاد داخل الأسرة، وغايتها إدارة الموارد المالية للأسرة بشكل فعال لضمان استقرارها المالي. ويتضمن هذا البرنامج تخطيط الدخل والمصروفات، وتحديد أولويات الإنفاق، والادخار، وتخفيض الديون إذا كانت موجودة، والاستثمار في المستقبل. وهذا الأمر يقتضي من أفراد الأسرة تقدير مداخيلها، وترتيب نفقاتها حسب الأولويات الضرورية. كما يجب عليهم توحيد طرف الشراء، فإما أن يكون الزوج أو الزوجة، حتى لا تحدث ازدواجية في عملية الإنفاق. ومن الاقتراحات العملية ما يلي: وضع ميزانية محددة ومكتوبة تتضمن كافة المصاريف للشهر المبارك، وضع قائمة احتياجات هذا الشهر، وشراء حاجتنا منها فقط، إعداد قائمة تتضمن طبخات الأسبوع، ومستلزماتها من السوق والالتزام بها عند التسوق.

البرنامج الدعوي الذي هو خطة عملية هدفها نشر تعاليم الإسلام لنيل عظيم الأجر والثواب، ومفادها الانفتاح على الأمة وحسن صحبة الشعب، تأليفا للقلوب على الدين، وتهييئا لإقامة دولة الإسلام، دولة العدل الذي يعيد إلى نصاب الاستقامة ما اعوج من شؤون الناس. ومن الاقتراحات العملية أذكر: تنظيف مسجد الحي، تموين المساجد بالتمر أو بالماء، تفعيل لوحة الإعلانات في المساجد والتجديد فيها، توزيع المطويات والأشرطة في المساجد، تنظيم فعاليات رمضان في الحي مثل إقامة إفطارات جماعية، تنظيم أنشطة للأطفال خلال أيام رمضان مثل الأمسيات الفنية، المسابقات الرياضي،. مسابقات قرآنية، ورش فنية وحرفية.

 وبهذه الأنشطة يكون برنامج الأسرة في رمضان متوازنا بين العبادة، والأنشطة العائلية، الدعوية والترفيه، وهكذا تعزز الروابط الأسرية والاجتماعية.

كيف نستطيع أن نحافظ على هذه القيم المكتسبة خلال شهر رمضان ونجعلها قاعدة عامة تنتظم حياتنا الأسرية على طول السنة؟

رمضان فرصة كبيرة لبدء تغيير حقيقي في حياتنا، سواء على المستوى الشخصي أو العائلي أو المجتمعي للاعتبارات التالية:

o اعتبار التأهب الروحي الذي يجسده إقبالنا على الله تعالى والتوجه والافتقار إليه، وبالتالي يكون حرصنا على الطاعات والعبادات أكبر.

o اعتبار استعدادنا النفسي لتقبل أي تغيير، وهذا ما أشار إليه علماء النفس، حيث يؤكدون على أن تحقق أي تغيير يجب أن يكرر من 6 إلى 21 مرة، فما بالنا بشهر رمضان الذي تكرر فيه الأعمال من 29 إلى 30 يوما: 30 مرة نضبط أنفسنا عن مباح، فما بالنا بالمحرمات.

o اعتبار قابليتنا للتدرب، الناتجة عن القوة الإيمانية والجسدية التي نكتسبهما خلال شهر رمضان، ومن ميزات هذا الشهر الفضيل أيضا تنظيمه للأوقات، في ساعة معينة ومحددة الإمساك وفي ساعة معينة ومحددة الإفطار، ففي شهر رمضان نتدرب على الدقة في تنظيم الأوقات والالتزام والانضباط.

واستيعاب هذه الاعتبارات ستساعدنا لا محالة في تثبيت ما اكتسبناه خلال شهر رمضان، وفي تحقيق التغيير المنشود الذي هو في الأساس تحول الإنسان من حال إلى حال، روحا وفكرا، قولا وعملا، ويحتاج هذا الأمر منا أن نقدِم وبجدية عليه، وأن يبدأ من داخل أنفسنا، وأن نأخذ بالأسباب التي تعيننا على ذلك بعد الاستعانة بالله. ومن هذه الأسباب التعلم والإصرار، وهذا الأمر يتحقق عبر المراحل التالية:

مرحلة التقييم، ومعناها الوقوف مع حياتنا وتقييمها على جميع المستويات، علاقتنا مع الله ومع أفراد الأسرة والمجتمع، نقف على مكامن القصور لتلافيها، وأوجه التميز والقوة لتعزيزها، وهذا ما أمرنا به الله تعالى في قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال: 53]. وصدق مالك بن دينار أحد العلماء الأبرار حين قال:  “رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ النَّفِيسَةِ: أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ ثُمَّ ذَمَّهَا (لامها) ثُمَّ خَطَمَهَا (منعها)، ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللَّهِ؛ فَكَانَ لَهَا قَائِدًا”.

مرحلة الاستيعاب، وأقصد بها إدراك واستشعار حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا، يشمل هذا الإدراك فهم الأدوار التي يقوم بها كل فرد في الأسرة وتقدير المسؤوليات المترتبة على هذه الأدوار فيسعى جاهدا للقيام بها، متخذا جميع الأسباب لإتقانها، مستحضرا أنه سوف يحاسب ويسأل عنها، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ” [أخرجه النسائي].

مرحلة الاستعداد، ومعناها حرص أفراد الأسرة على إعدادهم علميا لاكتساب المعارف المعينة لهم على أداء وظائفهم، وعلى إعدادهم أيضا عمليا لاكتساب المهارات اللازمة للقيام بواجباتهم الأسرية، قال الإمام المجدد رحمه الله: “والقومة تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير نفسه وعقله وسلوكه، تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي الاجتماعي” 3.

مرحلة التطبيق، وفحواها أخذ هدف التغيير بعزم وإرادة قادرة على تغيير العادات وتغيير الأوضاع، وذلك عبر اقتحام العقبات، والتخلص من شوائب الذهنيات والعادات، كما قيل: “المزاوَلات تُعطي الْمَلَكاتِ، والتمرينات ترقِّي صاحِبَها لدَرَجِ الكمالاتِ، والعاقلُ الواعيُ يُدرِك المسئوليةَ، ويُبصر عواقبَ الأمورِ قبلَ ظهورها، ويقيس الشيءَ بنظيره، ويأخذُ العبرةَ من غيره، ويحذَرُ الشرَّ قبلَ أن يصيبه”.

مرحلة الحفظ الذي تقتضي الثبات في الأمر والاستمرارية على الفعل، وسر النجاح في ذلك البدء بشيء يسير، فالبداية الهادئة والمدروسة أكثر قوة من الانطلاقة المندفعة التي قد لا تستمر طويلا. يُقال إن “الاستمرارية في العزيمة أفضل من الاندفاع في البداية”، وهذا ما أكده الإمام المجدد رحمه الله في قوله “أفقنا التغيير العميق الذي لا يمكن أن تبنيه وتقوده بعون الله إلا حركة مباشرة متواصلة” 4.  كما تستدعي هذه المرحلة سنة التدرج، فالتغيير يجب أن يتم بشكل متتابع، بحيث يبدأ الشخص بتعديل جزء صغير في سلوكه أو عاداته، ثم يعزز هذا التغيير تدريجيا حتى يصبح جزءا من حياته اليومية.

ما دامت الأسرة هي اللبنة الأساس للمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء، وحرصا على أن تبقى كذلك في أجيال أمة الإسلام، كيف نغرس في أبنائنا هذا الهم حتى يعم نفعهم العالمين، مستثمرين خراج هذا الشهر؟

إن من الواجبات العظيمة المنوطة بالوالدين تربية الأولاد والعمل على تنشئتهم التنشئة الصالحة بالاستقامة على الطاعة والبُعد عن المعصية، أي إن الأولاد أمانة في أعناق الآباء تقتضي أول ما تقتضي الحفاظ التام عليها والحرص على فطرتها النقية بالتربية الحسنة حتى يكون الولد صالحا يسعى لخدمة دينه وأمته. وهذا ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ أطيَبَ ما أكل الرَّجُل من كسبِه، وإنَّ ولدَه من كسْبِه” [رواه أحمد والتِّرْمذي].

كما يدعو الرسول الكريم أمته إلى التكاثر النوعي الذي يبهجه في معرض مكاثرة الأمم. وهذا الأمر يحتاج إلى العمل المستمر المترابط لتربية الولد الصالح القوي الملتزم بتعاليم دينه، الفاعل في مجتمعه. وهنا تتجلى أهمية وظيفة الوالدين في صناعة الكثرة النوعية، فعليهما بالدرجة الأولى تقع مهمة توجيه وإعداد الولد لتحصينه لينشأ قادرا على مواجهة تحديات هذا العصر ومقاومة تلك الثقافات المسمومة الوافدة. فإذا وعى الوالدان هذه المسؤولية، واستعدا للقيام بمتطلباتها، وبذلا الجهد الكافي في إنجازها، كان الأبناء أقرب إلى خط الاستقامة والصلاح، وأوفر حظا في تحقيق الرقي والنجاح.

ولغرس همّ البناء الأسري في أبنائنا، فلابد من بذل جهد خاص وواع لتعزيز قيم العائلة في نفوسهم، وجعلهم يدركون أهمية هذا المفهوم في بناء المجتمع والأمة، ويتم الأمر عبر الطرق التالية:

القدوة الحسنة التي يجسدها تعامل الأب والأم اللذان يجب أن يكونا مثالا للالتزام والاحترام المتبادل داخل الأسرة، لأن الأبناء يتعلمون أكثر من خلال الملاحظة والسلوك. فإذا كان الوالدان يظهران المحبة والرعاية تجاه بعضهما البعض، فهذا سيعكس صورة إيجابية للطفل عن قيمة الأسرة. العلاقة السليمة بين الزوجين تكون بمثابة نموذج يُحتذى به.

تربيتهم على المسؤولية من خلال إعطاء الأبناء مسؤوليات صغيرة داخل المنزل، مثل ترتيب الغرفة أو مساعدة في إعداد الطعام، يعزز فيهم الإحساس بأنهم جزء من كيان أسري ويجب عليهم الإسهام في رفع مستوى الأسرة.  وكذلك من خلال إشراكهم في اتخاذ قرارات عائلية بما يتناسب مع أعمارهم، مما يعزز لديهم شعور المسؤولية والمشاركة الفعّالة في بناء الأسرة.

الحوار المفتوح الذي نهدف من خلاله تشجيع الأبناء على التعبير عن مشاعرهم وآرائهم بحرية ضمن إطار من الاحترام المتبادل. هذا يعزز من العلاقات الأسرية ويجعلهم يشعرون بأن الأسرة هي مكان الدعم والاحتواء.  ويمكن استثمار هذه الحوارات للحديث عن أهمية الأسرة، وكيفية المحافظة على روابطها، وأن في الحفاظ على كيان الأسرة بناء للمجتمع والأمة. ويمكن تعزيز هذا من خلال قصص الأنبياء والعلماء الذين كانوا يقدّرون عائلاتهم ويعملون على رفعة مجتمعهم.

الاهتمام بالأنشطة العائلية عبر تخصيص وقت للعائلة من خلال تناول وجبات معا، أو ممارسة الأنشطة الترفيهية أو التعليمية، أو الاحتفاء بالمناسبات العائلية: مثل الاحتفال بالأعياد والمناسبات الخاصة، الأمر الذي يعزز الارتباط العاطفي بين أفراد الأسرة ويجعلهم يشعرون بأهمية الوحدة الأسرية.

من خلال هذه الوسائل، يمكننا أن نغرس في أبنائنا قيمة الأسرة كلبنة أساسية في بناء مجتمع قوي وأمة عظيمة، وتحفيزهم ليكونوا جزءا فاعلا في هذا البناء.

وختاما، وجب التأكيد على أن الإقبال على الله والإنابة إليه هو مركز الانطلاق للتغيير، وعلى أن موقفنا من أنفسنا ومن أسرنا يتغير بالتوبة الشاملة، من خلال وضع أوامر الله عز وجل مواضعها، فتصطبغ حياتنا بصبغة الله، وننضبط بطاعة الله، ننبعث، ننبري، نسارع في الخيرات، نسعى سعي الآخرة لا كدح الدنيا.


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 2، ص 242.
[2] ابن الجوزي، صفة الصفوة، ص 255.
[3] عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، ص 9.
[4] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص 249.