يقول الحق سبحانه و تعالى في محكم التنزيل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المومنون، 115)، ويقول عز من قائل: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة، 30).
هما إذن غايتان عظيمتان خلق الانسان من أجلهما؛ غاية العبودية لله ومحبة الله ومعرفة الله، وغاية الاستخلاف في أرض الله وتبليغ كلمة الله إلى عباد الله لتتحقق العبودية الكاملة لله وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات، 56).
غايتان وحقيقتان يندر من يحدثنا عنهما في زمان يعج بالمغفلات عن الله، قلّ من يصحبنا ويأخذ بأيدينا خطوة خطوة حتى تسكن هذه الحقائق شغاف قلوبنا ومشاعرنا وأفكارنا فنجدّ ونسعى. فكيف نتحرر من تفاهة حياة خالية من ذكر الله وطلب رضاه، خالية من خدمة عيال الله والجهاد في سبيله؟ ومن يساعدنا على الاقتحام المتواصل لخوض غمار فرصة العمر؟ وكيف نرتقي في مدارج الدين إسلاما وإيمانا وإحسانا؟
لا مضمار لنا في هذا الباب ولا سبيل لنا أيها الأحباب إلا التماس مواطن يوزع فيها إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسخاء لمن طرق الباب وجلس فتأدب وانغرس ليطبب في أرض مجالس الإيمان.
1. رياض الجنة
لا سبيل إلا مجالس الإيمان، فهي جنة الله في أرضه وروضة من رياضها. كم ذا نمر على روضاتها فلا نرتع؟ بل كم تعرض علينا عرضا فنعرض عنها إعراضا فلا نغنم؟ هي مجالس امتداد نوراني لسلسلة ذهبية ربانية أول حلقاتها كانت في دار الأرقم بن الأرقم، وهي موصولة وموصلة إلى أعلى مراتب الدين بإذن الله تعالى لكل من حضر وواظب ونقش اسمه في أحد حلقاتها، والسلسلة عندما تجر وترفع لابد أن ترفع جميع حلقاتها، يقول الحق سبحانه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رجال (النور، 36).
هي مجالس ذكر لله تعالى وتربية وتعليم وتدرج في اكتساب شعب إيمان مستديم، وبناء متماسك لتنظيم محكم وجهاد تغيير وتقويم، مجالس حب لله وحب لرسول الله ومحبة وأخوة في الله وذكر لله وصدق مع الله وبذل وعلم وعمل وتؤدة وسمت واقتصاد وجهاد في سبيل الله.
2. طلبة الملائكة
مجالس هي طلبة وبغية ملائكة الله تطوف في الطرقات ملتمسة حلقها لتنهل من أنوارها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ لِلَّه تعالى ملائكة يَطُوفُون في الطُّرُق يلْتَمِسُون أهل الذِّكْر، فإذا وَجَدُوا قوماً يذكرون الله عز وجل تَنَادَوا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُم، فَيَحُفُّونَهُم بِأَجْنِحَتِهِم إلى السَّماء الدُّنيا) متفق عليه.
ملائكة تطوف وتنزل وتلتمس وتجالس وتحف بأجنحتها وتصافح وتؤيد…
تنزل عند تلاوة القرآن كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر سورة الكهف، وتطوف وتلتمس وتحف بأجنحتها حلق الذكر، وتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وتصافح أهل استدامة الذكر في الطرقات وما خبر سيدنا عمران بن حصين عنا بغريب.
تؤيد المجاهدين الذين يثبتون ويذكرون الله تعالى عند لقاء العدو فيمدهم الحق سبحانه وتعالى بالملائكة منزلين ومسومين ومردفين، وأعلى من ذلك وأسنى أن يباهي الحق سبحانه وتعالى بهم الملائكة، فما الظن بقوم الملائكة جلساؤهم؟ لا جرم يقتبسون من أنوارها ويستديمون لمّاتها، فمن جالس جانس. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: (ما أجلسكم؟) قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام؛ ومنّ به علينا. قال: (آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: (أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة) رواه مسلم.
رحم الله عبد الله بن رواحة الذي ظن أحد الصحابة أنه يرغب عن إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيمان ساعة، لكنه رحمه الله كان يفيء بساعته إلى ظل رحمة الله ومجالس ملائكة الله فاستحق الدعاء بالرحمة من رسول الله.
ورحم الله سيدنا معاذا بن جبل فهو بدوره رفع شعار (تعالى بنا نؤمن ساعة) يواسي به الرجل من إخوانه فيتألف ويتحبب إليه ليجلسوا ساعة يذكرون الله تعالى فيها.
3. متنزل السكينة
رحم الله الصحابة جميعا فقد عرفوا فلزموا، عرفوا أن تلكم المجالس هي مهبط الرحمات ومتنزل السكينة؛ رحمات يصيب بها الحق من يشاء وسكينة وطمأنينة تغشي القلب ويتوقف عن تقلبه واضطرابه بين حالات القلق والشك والسخط ليسكن إلى ذكر الله حتى ينجمع على الله، يقول الحق سبحانه الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد 28)، فعندما يصبح المؤمن مشتاقا لمجالس الذكر حيث السكينة كما يرتاح ويشتاق إلى منزله وسكنه بعد طول سفر، يتهيأ القلب حينها إلى تجديد الإيمان، بل إلى زيادة الإيمان، إذ يقول الحق سبحانه هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (الفتح، 4).
4. حي على الفلاح
فكيف نزهد في مجالس خراجها محبة الله، بل المحبوبية عند الله؛ حقت محبتي للمتجالسين في؟ وكيف نزهد في مجالس تتيح لنا فرصة الدخول في الإجماع الكوني لنعزف سيمفونية العبودية الكونية مع مخلوقات الله فلا نكون نغمة نشاز في هذا الكون العابد؟ وكيف نزهد في مجالس هي سبيل خروجنا من الوصف إلى الاتصاف، من وصف حال المحبين إلى الإتصاف بأشواقهم، من وصف جهاد المجاهدين إلى الإتصاف بعزمهم وإرادتهم، من وصف أولياء الله تعالى إلى سلوك طريقتهم؟
فحيى على الفلاح، حي على مجالس الإيمان لنخرج من غيابات جب الغفلة وظلمات النفس والهوى والشيطان إلى رحاب أنوار ورحمة الله وسكينة الله وفتح الله إن شاء الله.
فاللهم تداركنا بكريم عفوك وجميل إحسانك ووفقنا إلى الغنيمة من جزيل نفحاتك في روضات جناتك والحمد لله رب العالمين.