أبصرت النور بعدما سكنت قرارا مكينا مدة تسعة أشهر، كان طعامي طعامك أمي، وشرابي شرابك. شهورا تكبدت خلالها من الصعاب ما لا يطاق؛ تعب ومرض وألم، ثم سهر وخوف وقلق ….
تتقدم الأيام وأكبر عاما، وأصبح قادرة على المشي، رأيت حينها الفرحة تكاد تطير من عينيك وأنت تطلبين مني أن أعاود الكرة، وأنت تخبرين أبي حين عودته من العمل: “لقد تمكنت صغيرتي من المشي”.
وعندما نطقت أول كلماتي؛ كلمة “ماما”، يا لتلك اللحظة! أحسست بك أمي لم تسعك الدنيا. حينها حملتني واحتوتني ضمتك التي جمعت كل المعاني الجميلة التي تكنينها لي، ذاك الحب الذي يحتويه قلبك تجاهي؛ مزيج من مشاعر شتى لا يمتلكها إلا الأم، هي هبة ربانية، هو عطاء الرحمان، والرحمان إذا أعطى أدهش.
كبرت وكبرت وكبرت، يغذيني حنانك، ويسقيني حبك، ويرعاني خوفك علي، ويحميني عطفك، وتحتويني شفقتك.
كبرت وكبرت وكبرت، تكلؤني عنايتك، وتحرصني رعايتك؛ “افعلي هذا بنيتي” و”ابتعدي عن هذا حبيبتي”، و”هذا جيد، واصلي طفلتي”.. تعلمت منك الكثير؛ زرعت في القيم النبيلة زرعا، وغرست في الأخلاق السامية غرسا. وكم كنت تفرحين حين ترين غرسك قد أينع، وثماره قد نضجت. كم كنت تفرحين أمي، وأنا أحدثك بصدق، وأخبرك بالحقيقة كاملة كلما ارتكبت خطأ، وأصارحك بأفعالي، فتقبلين صراحتي وتأخذيني معك في رحلة رائعة كانت تأسرني، تنتقلين بي فيها من خصلة إلى خصلة، تروين لي فيها عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ أخلاقه، وصدقه، وأمانته، وحسن معاملته..
أتذكر أمي، وأنا ابنة العشر سنوات، كيف كنت أتحايل لأحصل منك على مصروفي، يوم أعطيتك ورقة مطوية، وأنت منهمكة في إعداد الطعام، فتحتها، فإذا هي مكتوب بها:
– أجرة الاعتناء بإخوتي أثناء غيابك: 5 دراهم.
– أجرة غسل الصحون: 3 دراهم.
– أجرة ترتيب غرفتي: 4 دراهم.
– أجرة ترتيب مكتبي: 3 دراهم.
المجموع: 15 درهما.
قرأت ورقتي حينها بتمعن، وأنا أختلس النظر إليك، والدموع تنهمر من عينيك، مسحتها مسرعة وناديتني، ثم أمسكت بيدي ونظرت إلى عيني قائلة:
لقد حملتك تسعة أشهر مجانا، وقاسيت ألم الحمل والولادة مجانا، سهرت الليل للعناية بك وأنت مريضة مجانا، رضيت بكل الهموم التي سببتها لي مجانا، علمتك ودرستك وساعدتك في فروضك مجانا، اعتنيت بك وبنظافتك وثيابك مجانا..
أحسست وقتها بالدنيا تدور من حولي، رميت بنفسي على صدرك الحاني خجلا، وبكينا معا. عرفت حينها أن لا جزاء يكافئ عملك..
كبرت وكبرت وكبرت، حتى إذا اشتد عودي، واستوت قامتي، وأصبحت قادرة على الاعتماد على نفسي، والتفكير لوحدي، واتخاذ القرارات، أحسست بدماء الاستقلال تجري في أوصالي، فأردت التحرر من كل القيود.
مرحلة غريبة هذه التي أعيشها، وتغير غريب هذا الذي طرأ علي؛ أصبحت أرفع صوتي في وجهك أمي، وأناقشك بكل جرأة، أصبحت أنازعك وأصارعك، وحين تلحين تأخذني الحمية فأعارضك بكل قوة، وأرفع كتفي وأخفضه… حتى نظراتي لم تعد تلك النظرات البريئة، أصبحت أنظر إليك بطريقة أخجل حين أتذكرها، يا ويلي! ألم ينهنا الله عن قول الأف؟ ألم يوصنا الرسول صلى الله عليه وسلم “أمك ثم أمك ثم أمك”.
تملكني الخوف، تملكني الجزع والفزع، وأنا أرى نفسي تنحرف بي وتجذبني نحو الهاوية، وتقذف بي نحو وادي العقوق، فقررت أن أحطم هذا الحاجز الذي بدأ يبنى بيني وبينك قبل أن يحطمني، قررت أن أراسلك أمي، قررت أن أصارحك وأن أبوح بما في نفسي، فكتبت رسالتي:
من ابنتك المقصرة، الجاهلة، العاصية المذنبة، إلى قرة عيني، أمي الحبيبة.
أمي الغالية؛ أخط لك رسالتي هاته من أعماق قلب كواه الندم والحسرة على ما فرط وكسب. أمي الحبيبة أعرف أنه لو سالت دموعي أنهارا حتى جرت بها الأرض ما غسلت ما ألحقتُ بقلبك من كدر وحزن وقهر وأسف على جهودك التي قوبلت بالجحود.
أيها الحضن الدافئ، أيها الملجأ والمفر، يا نبع الحب والدفء والصفاء، يا من تحملت من أجلي الكثير، غير ناقمة ولا ساخطة ولا متبرمة، ودون أن تنتظري مقابلا، اقبلي عذري وسامحي تقصيري وجهلي وطيشي.
وهذا عهدي فاقبليه.
أعدك أمي أن أكون ابنتك البارة لتكوني لي أما حانية، أعدك أن أكون لك أرضا لتكوني لي سماء وغطاء، أعدك أن أكون لك في الصحة والمرض، في الشباب والهرم، في الفراغ والشغل.
أحبك أمي من أعماق قلبي، وأعلم أنك تحبينني فارضي عني لينير الله دربي، واستمري في حبك ورضاك ليفتح باب سلوكي ووصالي.