هي أم المؤمنين سيدتنا خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشية الأسدية.
كانت تدعى قبل البعثة الطاهرة، وهي أشرف نساء قريش نسباً، فهي سيدة نساء قريش، وأولى أزواج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأم كل أبنائه ما عدا ولده إبراهيم.
سبقها وفضلها
تعتبر سيدتنا خديجة حصن رسول الله صلى الله عليه وسلم الداخلي، وركنه الشديد، والصاحبة في الطريق التي تخفف عنه، وتواسيه، وتسعى في قضاء حوائجه، وكانت – رضي الله عنها – قد أكرمت رسول الله بالعمل الكريم في تجارتها، وأسكنته بيتها، وكانت الحاضنة الأولى للرسالة الربانية حيث كانت تُنفق على رسول الله من مالها حين تفَرغ لأمر الرسالة، وآمنت به حين كفر به الناس، وصدّقته حين كذبه الناس، وآوته حين طرده الناس.
فإذا دخل بيته بعد يوم شاق في الدعوة والتبليغ سرعان ما ينسى الألم والحزن؛ إذ تمسح بيدها الحانية على قلبه. كانت رضي الله عنها امرأة حاذقة صَنَاعاً في إدخال السرور على زوجها والتخفيف عنه. ولقد ضُرب بها المثل في طهارتها، وحكمتها وحصافتها.
طُهرها وعفتها
عرفت سيدتنا خديجة بالطهارة في الجاهلية قبل الإسلام حيث كان لقبها “الطاهرة”.
والمرأة التي تحمل هذا اللقب في مجتمع جاهلي أكلته الفواحش، وجازت فيه الدعارة، واشتهرت فيه البغايا، لهي امرأة بلغت من العفة والنقاء مبلغًا رفيعًا؛ أهّلَهَا لهذا الاصطفاء الرباني، أن اختارها الله عز وجل زوجا لخاتم الأنبياء.
حكمتها
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن الوحي فاجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فجاء الملك جبريل عليه السلام فقال له: اقرأ. قال صلى الله عليه وسلم: “فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد”. ثم غطه الثانية والثالثة. ثم قال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ،خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 1 .
قالت عائشة رضي الله عنها: “فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. فقال لخديجة: “زملوني، زملوني”! حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة -وأخبرها الخبر-: “لقد خشيت على نفسي”! فقالت خديجة: كلا! أبشر! فوالله لا يخزيك الله أبدا! إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق”.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي -وهو ابن عم خديجة أخي أبيها- وكان امرءا تنصر في الجاهلية. وكان يكتب الكتاب العبراني. فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي.
عن هذه القصة يعلق الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب تنوير المؤمنات ج1 ص77 قائلا: همة امرأة وثباتها وعطاؤها كانت الأساس الخلقي المعنوي الذي رُكِّزَ عليه لواء الإسلام. أمنا خديجة رضي الله عنها حاطت محمدا بعنايتها، وتزوجت، وأنفقت. وهي زوّدته لغار حراء يتبتل وهي أول من آمن به وصدقه وثبته لما جاءها يرجُف من رؤية الملك الذي جاءه بالوحي. قالت له وقد بث إليها أنه خشي على نفسه فقالت: «كلا! أبشر! فوا لله لا يخزيك الله أبدا! إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمِل الكَلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق»).
كمالها
يقول الله عز وجل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ َمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ 2 .
فيعلق الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب تنوير المومنات ج 2 ص 291 قائلا:
إن لم يُذكر في القرآن من الكاملات غير مريم وآسية، فقد ذَكَر الوحي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم نماذج كاملة ليعلم الكل أن الاصطفاء الإلهي متصل. بل بلغ الاصطفاء قمته مع قمة الرسل عليهم السلام وما لها أمّنا خديجة لا تكون خير نساء العالمين وهي آمنت حين كفر الناس، ونصرت حين خذلوا، وحَمت حين أسلموا! بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة من قصب (لؤلؤ) لا تعب فيه ولا نصَب. قال أبو هريرة: )“أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت ومعها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب. فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني. وبشِّرْها ببيت في الجنة من قصب، لا صخَبَ فيه ولا نصب” 3 . الله أكبر! أيّهما أغلى وأحلى: بيت عند الرب، أم تحية السلام من الرب!)يُمسك بيده الشريفة المصطفاة خديجة فيقول:)“خير نسائها مريم بنتُ عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد” 4 .
ثم يقول رحمة الله عليه: قمة الكمال وكمال المثال في خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها التي نصدُق إن قلنا إنها نهض بها الإسلام كما نصدق إن قلنا إنها نهضت بالإسلام. ويجيئها وسام الشرف من رب العالمين. مثال وخيال عند القوم المجرمين، وعندنا نحن حق اليقين. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: )“أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتْ ومعها إناء فيه إدام -أو طعام أو شراب- فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني. وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب”. لا إله إلا الله! أي فضل هذا نالته من حملت الإناء تطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسقيه وتحوطه بحمايتها وتثبته في أهم فترة من فترات لقاء الأرض بالسماء!).
وفاء رسول الله لها
حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدها بعد موتها. قالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: “ما غِرْت على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ على خديجة قط، وما رأيتُها قط. ولكن كان يكثر ذكرها. وربَما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة. وربما قلت له: كأنهُ لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها وَلد” 5 .
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ما لم يثن على غيرها، فتقول عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، قد أبدلك الله خيراً منها، فغضب ثم قال: “لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنتْ بي إذْ كفرَ الناس، وصدَّقتني إذ كذّبَني الناس، وواستني بمالها إذ حرمنـي الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء ” قالت عائشة: فقلتْ في نفسي: لا أذكرها بعدها بسبّةٍ أبداً”.
وفي الختام نسأل الله أن تشرئب أعناقنا للاقتداء بهذه الكاملة، فنحن في أمس الحاجة إلى “خديجات” ينفقن على الدعوة، ويبذلن للدعوة، ويصبرن في سبيل الله، ويسكبن الإيمان والثقة والفرح في قلوب أزواجهن سكبًا. ويبَلِغْنَ دعوة الله إلى نساء العالمين.
فسلام الله عليك أيتها السيدة الجليلة العظيمة وجعلنا الله ممن تشفعين لهم يوم القيامة.