خصوصية المرأة في فكر الإمام المجدد عبد السلام ياسين

Cover Image for خصوصية المرأة في فكر الإمام المجدد عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

للمرأة وخصوصية جنسها حكمة بالغة لا سبيل لإدراك حقيقتها دون العودة إلى أصول السنة النبوية الشريفة، فالفهم السطحي لمفهوم خصوصيتها جعل منها زينة ومتاعا فقط. لذلك توجه الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله  إلى المرأة ذاتها لا إلى مثيري الشبهات حول وضعيتها. حيث خصها  بمؤلف في جزأين، تناول فيه قضية المرأة، مراعيا خصوصياتها التي تميزها عن الرجل وتؤهلها للقيام بوظائفها على الوجه الذي فطرها الله عليه معتمدا على المنبع الصافي كتاب الله وسنة رسوله.

فما مفهوم خصوصية المرأة عند الامام المجدد عبد السلام ياسين؟ وأين تبرز تجليات هذه الخصوصية؟

مفهوم الخصوصية عند الإمام عبد السلام ياسين

خَصَّه بالشيء، يَخُصُّه “خَصا وخُصوصا”، بالفتح فيهما، ويضم الثاني… والخصوص: التفرد ببعض الشيء مما لا تشاركه فيه الجملة. وخصه بالود كذلك إذا فضله دون غيره” (1). أما الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله فتجاوز هذا المفهوم اللغوي إلى معنى أرحب، متحدثا عن مفهوم الخصوصية عند المرأة منطلقا من قوله “مبدأ تقسيم الوظائف بين المتخصصين مبدأ فطري وعقلاني..”، منتقدا دعاة “تحرير المرأة” الذين ينكرون هذا المبدأ ويأبون إلا أن يكون للمرأة مثل ما للرجل كتفا على كتف، ويرفضون مبدأ التخصص، وضرورة التكامل، وإمكانية حياة منسجمة على نمط غير النمط الصراعي بين الرجل والمرأة (2).

فالإمام هنا ينتقد دعاة التغريب الذين يدعون إلى المساواة بين الرجل والمرأة دون مراعاة جانب الخصوصية الذي يميزها، وهو أمر يجانب الصواب، والقول الصحيح الموضوعي يقتضي إدراك أن العلاقة بين الرجل والمرأة يجب أن تكون علاقة تكاملية، لا غنى لأحدهما عن الآخر، كي لا يكون هناك خلخلة في توازن الطبيعة التي فطرهما الله عليها.

لقد خص الله تعالى الأنثى دون الذكر بخصائص فطرية ما أراد الله بها نقصا، ولنا في قصة سيدتنا مريم عليها سلام الله خير دليل، قال الله عز وجل فَلَمَّا وَضَعَتْها قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثى (آل عمران، 35). امرأة عمران نذرت حبلها  محررا أي مخلصا لخدمة بيت المقدس، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكرا، وأنث الضمير في قوله  “فلما وضعتها” وهو عائد إلى “ما في بطني”، باعتبار كونه انكشف ما صدقته على أنثى، وقولها إني “وضعتها أنثى” خبر مستعمل في إنشاء التحذير لظهور كون المخاطب عليما بكل شيء، وأنث الضمير في “إني وضعتها أنثى” باعتبار ما دلت عليه الحال اللازمة في قولها “أنثى”، إذ بدون الحال لا يكون الكلام مفيدا، فلذلك أنث الضمير باعتبار تلك الحال. وقوله “والله أعلم بما وضعت” جملة معترضة، وقرأ الجمهور وضعت بسكون التاء فيكون الضمير راجعا إلى امرأة عمران، وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلام المحكي، والمقصود منه أن الله تعالى أعلم بنفاسة ما وضعت، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألته، فالكلام إعلام وتعليم بأن من فوض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقب تدبيره (3).

يقول الإمام عبد السلام ياسين “طفلة كانت والكرامات تظهر على يدها، أعظمهن لزومها المحراب والعبادة…”، مسترسلا قوله رحمه الله “والمهم أن تعلم النساء، وتوقن المؤمنات أن الله عز وجل كما يصطفي من الرجال عبادا يصطفي من النساء إماء، وأن باب كرمه مفتوح للمرأة كما مفتوح للرجل، وأن طاعته سبحانه وعبادته والقنوت إليه والجهاد في سبيله هي الأعمال التي تشرف بها المرأة ويشرف الرجل لأنها أعمال خالدة، تموت الحضارات ويبعث الخلق فرادى ما يجدون عند مولاهم إلا ما قدموا” (4).         

تجليات هذه الخصوصية عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين

1- خصوصية الطبيعة

يلعب الاستقرار الأسري دورا هاما في تربية النشء، فمتى وجدت الأجيال طمأنينة وسكينة بالبيت إلا واستطاعت اقتحام عقبات الحياة، وساهمت في صناعة مستقبل الأمة، ولن يقوم بهذه المهمة إلا من خصه الله بمؤهلات، وهن المؤمنات اللواتي اختصهن الله بالأمومة الحانية البانية.

إن عماد الأمة القوية هو الأسرة القوية، ولن يتحقق هذا الأمر إلا بفضل الأم المربية المصلحة. وقد وضح هذا الإمام رحمه الله في قوله “عقت وما بقت امرأة قامت بوظيفة جسمها كرها ووهنا فألقت إلى الوجود أجساما، ولم تؤد واجب عاطفتها وعقلها وإيمانها. أخرجت إلى الوجود جسما جديدا، فلما أرسلته هملا ساء عملا، فهو غثاء بال وإن كان الجسم في ريعان الشباب” (5). فمن خصائص نزعة الأم الطبيعية القدرة على الإنجاب والاحتضان واللين من داخل برجها الاستراتيجي المزود بخطط دفاع موجهة لتربية سليمة حفاظا على الفطرة واستمرار الجنس البشري بعيدا عن الغثائية، متعهدة الرعاية والتربية وحسن التوجيه.  

لكن كثيرا ما نجد أن دعاة التغريب والانسلاخ عن الدين ينكرون خصوصية الأمومة التي تتميز بها الأنثى، ويعتبرونها عائقا يجب أن تتخلص منه لتحقق ذاتها متجاهلة فطرة الأمومة التي فطرها الله عليها. في حين أن الأمومة برج دفاعي تربوي مستقبلي أخروي، تعطي فيه الأم من حنانها وصبرها وقوة تحملها ما يلزم لبناء الإنسان، وهذا ما يؤكده الإمام المجدد عبد السلام ياسين في قوله “حس المؤمنة المجبولة على تعهد الحياة وبناء الإنسان محمولا في البطن وموجعا من أجله في الوضع، ومرضعا محنوا عليه ومفطوما مفصولا برقة، وصبيا يلعب في الحجر وغلاما مشاكسا ويافعا ثائرا وزوجا بعد وأبا، كل ذلك يطلب من المعاناة  والصبر واللين والحب والرفق ما تقدره المرأة حق قدره. فتسمعه من الوحي، وتخزنه لنا ذاكرتها” (6).

ونجد كذلك الميز والحيف الواقع عليها باسم الدين هو محض افتراء على دين الله وقراءة ظالمة، تجعلها في مرتبة دونية، في حين تستطيع المرأة بخصوصية طبيعتها أن تصل إلى أعظم الدرجات في سبيل تحقيق كمالها الإنساني. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المرأة كالضِّلَعِ، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَج”، يفهم هذا الحديث من بعض كبار العلماء فهما حرفيا ناقصا، يقول الإمام: “فالمرأة عندهم عوجاء مطلق الاعوجاج، والرجل هو الاستقامة والمعيار . فكيف لنا بهذا الفهم عن رسول الله الذي أوتي جوامع الكلم، أن يأتي كلامه متحيزا ضد المرأة، وهو الذي أوصى بها ثم أوصى”، مضيفا رحمه الله “فليس من التجني على اللغة وبلاغتها، وعلى الرجل وطبيعته المخالفة لطبيعة المرأة، ولا مقاصد الشارع أن نفهم الاعوجاج في الضلع كناية عن الاختلاف بين الرجل والمرأة في التركيبة النفسية، لا إطلاقا لا اعوجاج في الإناث يقاس باستقامة الذكران. فلو قلبنا “ولا ينبغي” المنظار وقسنا الرجل على المرأة  لحكمنا أنه هو المعوج لا هي. لا ينبغي أن نقلب، لأن القوامة والدرجة للرجل جعلها الله، والاعوجاج إلى المرأة الضِّلَع نسبه رسول الله. وأستغفر الله” (7)،  لتتميز حقيقة ملامح هذا الاختلاف في قوله رحمه الله: “إن اختلاف نفسية المرأة، وغلبة العاطفة عليها إن غلب على الرجل المنطق العقلي، مزية وتكامل. لا يصح أن ننقصها لمكان تركيبتها النفسية إلا لو صح أن نلومها على اختلاف تركيبها الجسمي. اعوجاجها الضِّلَعي هو استقامتها. هو انحناء معنوي وحنو. هو عاطفة ورحمة” (8).

نرى كيف أن الإمام المجدد عبد السلام ياسين أعطى  معاني كبيرة لمفهوم الأمومة، وهو هنا يحرر هذا المفهوم من فهمين خاطئين التصقا بتاريخنا؛ تاريخ الانحطاط والانكسار، وكيف أصبحث المرأة في مرتبة الصحابيات وما ربين من مجاهدين ومن علماء ومن محسنين، وكيف أصبحت بعد ذلك كما مهملا لا تملك أدنى مقومات القيام بدورها الطلائعي، لتصبح مخلوقة تعيش الدونية وتستشعر اللاشيئية، يعني مجرد كمّ مهمل لا يعول عليه في العطاء والبناء، في حين أنه سبحانه وتعالى أعطاها دورا هاما في حفظ الفطرة وصناعة التغيير.

2- خصوصية الوظيفة  

الجبهة الأساسية للمرأة التي هي البيت، لا تعفيها من مسؤولية إعداد جند الغد، فمن البيت الإسلامي تنطلق القومة، وبفضل قوة اللين والرحمة تبعث المؤمنة بعوثا في طليعتها البنات والبنون المهيئين لنصرة دعوة الله بعدما أيقظت فيهم هم مستقبل الأمة. وفي هذا الباب يقول  الإمام ياسين رحمه الله “لكن التبرج الكلي هو خروج المرأة من برجها الإسلامي مظهرا ووظيفة وأخلاقا ودينا، هو ميلها عن الإسلام وخيانتها لمهمتها الحربية القتالية في صد الجاهلية والدفاع عن الإسلام وإرساء ركائزه وتشييد بنيانه، إذ البرج الذي خصصه القران وجسدته السنة للمسلمة ليس سجنا وخنقا وجدرانا، إنما هو موقع من مواقع الدفاع عن العقيدة” (9)، وفي نفس السياق يقول رحمه الله “ويكون برج المؤمنة مشتلا لتربية الشجر الطيب، ومنطلقا للبعوث الغازية، لا مجرد ملاذ في الأحضان، ومرفإ للمراكب المنكسرة. ومطعم ومضجع” (10).    

هنا الدعوة إلى استنهاض همم النساء وتحفيزهن للمشاركة الفعالة وتشكيل قوة اقتحامية تستطيع بها المرأة الخروج من ربقة المظلومية والفقر والعوز والحاجة، متجاوزة عوائق الأنانيات والذهنيات المتخلفة، مشاركة في حل قضايا الأمة مع الرجال متزعمة لا تابعة. “لا نجد بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة ذكرا  للنساء بفضل، وكأن الفتن التي ابتلعت من الرجال أنفة الخضوع للسلطان الجائر عقمت النساء من الفضائل التي كان يتحلى بها الجيل الباني المشارك الحي من الصحابيات رضي الله عنهن” (11).

كما أن مشاركة النساء في الدعوة إلى الله من أوجب الواجبات، إذ بهن يستقيم البيت وتنتظم التربية، “فإن كان تفرغ الأمهات لتنشئة الأجيال المؤمنة وحفظ الفطرة سليمة من أسبق المهمات المستقبلية، فإن تربية الأمهات تكون الشرط الأسبق والمطلب الأوثق. وذلك ما يجب أن تفرغ فيه جهود المؤمنات المنتسبات للدعوة ليسددن ثغرات تركها في نسائنا الجهل الموروث، والفقر المثبط، ومرض الفطرة” (12).

هذا ما يمنحه إياها دورها الفعال في المجتمع، لما حباها الله به من خصوصيات العطاء مساهمة في البناء؛ “الاستعداد الفطري عند المرأة للإحسان والعطف ورعاية الضعيف والمحروم ينبغي أن يتوج في المجتمع الإسلامي بالإحسان الروحي لكي يسد هذا الإحسان الفردي والمنظم ثغرات لا يسدها “عدل الدولة” البعيد عن ساحة البلاء، المجرد لعمومه وبعده عن المشاعر الإنسانية التي تئن لأنين المريض وتقاسم الآلام مع البائس في المكان والزمان والأزمات العينية والضرورات الطارئة” (13).

جمع الإمام رحمه الله في ما سبق ذكره بين دور المرأة الطبيعي المتمثل في الرعاية والعاطفة وحسن التوجيه، وبين دورها الوظيفي بالجهاد لإعلاء راية الإسلام ونشر دعوة الحق، فمشاركة المومنات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن أساسي من أركان الدين، متسلحات بجرأتهن في الحوار وثقافتهن السياسية، وإبانتهن في الخطاب، وإحسانهن بالضعيف، بتجنيد طاقتهن وبذل ما لديهن ابتغاء رضوان الله.

خاتمة

إن خصوصية المرأة الطبيعية والوظيفية أمر بديهي لا ينكره إلا معصوب العينين بسواد الفهم المنحبس، وإن الفكر التجديدي الذي طرحه الإمام عبد السلام ياسين حول هذه القضية، مؤداه أن المرأة عليها أن لا تطلب المساواة مع الرجل فهو أمر ليس في صالحها، وعلى الرجل أن يدرك طبيعة المرأة العاطفية التي هي ليست نقصا أو عيبا فيها بل مزية وتكامل، كل هذا  يسعف المرأة في بناء شخصيتها الفاعلة في التغيير وتبصيرها بدورها  في صنع غد الأمة وبناء مستقبلها.


(1) الزبيدي، محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مصطفى حجازي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1977، 17/551.

(2) ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، دار البشير للثقافة والعلوم، مصر، ط1، دت، 1/161.

(3) ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1994،  3/234.

(4) ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، 2/257.

(5) نفسه.

(6) نفسه، 1/57.

(7) نفسه، 2/174.

(8) نفسه، 2/174.

(9)  نفسه، 1/11.

(10) نفسه، 2/213.

(11) نفسه، 1/61.

(12) ياسين، عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، دار إفريقيا والشرق، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص 283.

(13) ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، 1/171.