هذه ترجمة مقال “Le discours d’un roi” الذي نشرته الأستاذة ندية ياسين يوم 14مارس 2011 في موقعها بالفرنسية، إثر خطاب 9 مارس.
أضافت المكتبة السينمائية العالمية تحفة أخرى إلى رصيدها؛ شريط أدى فيه الممثل”كولين فيرث” 1 ، ببراعة ملكية، دور جورج السادس الذي وجد نفسه مجبرا على إلقاء الخطابات. من الصعب بمكان أن يرث المرء لعنة الحكم، لكنه جحيم حقيقي ذاك الذي كان يعيشه المسكين بفعل الإعاقة النطقية : فقد كان يتمتم. هناك ملوك يعانون من إعاقات مثل عامة البشر، لأنهم فعلا بشر ولأنهم يحملون أعباء ثقيلة ينوء بها عاتق كل بشر. بل هناك حتما بعض الرؤوس المتوَّجَة التي تتمنى أن تكون أبعد ما يمكن عن ذلك العرش الذي يصادر حقها في السكوت. ملوك وملكات يتمنون أن يحبهم الناس لخصالهم، لا خوفا من صولجاناتهم التي غالبا ما تتحول إلى هراوات، ولا طمعا في الجزرة التي يلوحون بها باليد الأخرى.
إن هذا الشريط، الذي لا يمكن إلا أن يشد انتباه رعايا ما تَبَقّى من الملوك، مفيد بحق ! وبما أنني من هذه الشريحة، فقد تابعته باهتمام. إنه يخبرنا بأن هناك ملوكا يتمتمون، كما تخبرنا الملابسات التاريخية المحلية أن هناك ملوكا يحدث لهم عطب تقني، وآخرون يُلقون خطبا كي لا يقولوا شيئا.
هذا الإبداع، الذي يلفت انتباه المشاهد إلى صعوبة مهنة الملك، قد يدفع أيضا إلى التساؤل حول عدد الملوك المتبقين على وجه البسيطة. ليس المقصود عدُّ الجبابرة الذين ألقت بهم القوى الاستعمارية فوق العروش فلصقوا بها مدى الحياة ولأجيال متتالية. هؤلاء لا يبالون بجودة الخطب ولا بعمقها. وكلنا عاين ضحالة “خطب” قذافي مجنون، بلغت قمة العبث في زمن الاضطرابات العربية هذا، وشكلت مادة خصبة لكل”دي جي” 2 من السند إلى الهند مرورا بأمريكا. كاد الأمر أن يكون مضحكا حتى الاستلقاء على القفا لولا آلاف الشهداء الذين رووا بدمائهم الربيع الليبي الذي يأبى أن يحل.
لا نقصد كذلك صغار “الملوك” الذين تزخر بهم إفريقيا المنسية، بل نتحدث عن الملوك عريقي السلالات الذين يفتحون أعينهم على العالم بملعقة ذهبية في أفواههم وميكروفونا ينتظر مونولوجهم السياسي.
هم قلة يشارفون الانقراض، وخطبهم نادرة لأنهم توقفوا منذ عهود عن قصف رعاياهم بثرثرتهم، تاركين مهمة الخطب لوزير أول حقيقي، متخذين صمتهم البروتوكولي المتعالي عن شؤون المجتمع حجابا يسمح لهم بالتفرغ لحياة العوام.
تلك خواطر أثارها لدي “خطاب ملك”، رغم ما يبدو من افتقاره إلى العمق، فأنا بطبيعتي أحب دائما قراءة ما وراء سطور الكتب، واستخلاص العبر الفلسفية من إبداعات تبدو لأول وهلة بدون رسالة معينة، لكنها في الغالب تخفي دروسا عميقة.
لم أتوقف منذ بضعة أيام عن تأمل “خطاب ملك”، الذي وإن أثار لدي إشفاقا كبيرا على شخص جورج السادس، إلا أنه أكد قناعتي بأن الُمُلك سجن يجب تحرير الملوك أنفسِهم منه. كنت إذا بصدد تأمل ذلك العمل السينمائي الذي يعالج معاناة عاهل مسكين تمتام من القرن الماضي، ومن بلاد غير بلادي، عندما وجدت نفسي، ويا لسخرية الأقدار، أمام خطاب ملك معاصر ومن دياري.
لقد خطب محمد السادس ! فهب المتملقون من أصحاب المباخر الرسمية والتجشآت “البسطيلية” معتبرين الخطاب، قبل انتهائه، معجزة ديمقراطية.
أما أنا، فعند النبرة الأولى التي تصاحب مطلع النشيد الوطني “منبت الأحرار”، تركت جورج السادس وتخميناتي حول الملكية الوراثية، لأتتبع التاريخ المباشر الذي تدور أطواره في بلدي.
دعت دروب الخيال، ووسامة ملك صنعه الوهم السينمائي، لأنصت إلى ملك حقيقي يُتَوَقَّع أن يجيب شعبه الذي يغلي.
هنا تسارعت تخمينات جريئة لتخامر عقولا ساذجة من حولي :
– ترى هل سقطت الثمرة من تلقاء نفسها؟
– هل سنعيش المعجزة المغربية زيادة على الاستثناء المغربي؟
– هل أثمر نضال حركة 20 فبراير ؟ وبهذه السرعة ؟
أصغيت إذن إلى خطاب الملك بنفس الفضول الذي تابعت به الشريط المذكور وتساءلت : ترى ماذا سيلد الجبل؟
انتهى النشيد الوطني كعادته بالنغمة المصاحبة لآخر كلمة فيه: “الملك”. هذه الكلمة فقط تكفي لنوقن أنه لن يتم الإعلان عن قيام جمهورية، لكن يبقى لنا أن نأمل شيئا يجعل الكرامة والحرية تطرقان بابنا كما يفعل القدر في السيمفونية الخامسة لبتهوفن.
انتظرنا ضربة القدر، شيئا على غرار”زنكة، زنكة…” في اتجاه ايجابي يجعلنا، وإن لم نرقص فرحا، نستنشق هواء التغيير المنعش. لكن.. لكن… سرعان ما أدركنا بأنه العطب السياسي من جديد.
نفس اللحن ! نفس الوعود !
استعراض لأهم مضامين الخطاب
– حقوق الإنسان
قصة قديمة ومستهلكة عشت أحد فصولها سنة 2005 عندما كدت أن أدان بخمسة سنوات؛ وتجرع كأسها لحد الغثيان، ثمانية من مناضلينا، في الأشهر القليلة الماضية، عندما ذاقوا بركات ما لم يعد يسمى بسنوات الرصاص، وعرف بالعهد الجديد الديمقراطي الذي لا يحتاج سوى إلى التعزيز. التعزيز تلك اللازمة التي تكررت على طول “الخطاب الثورة”.
أالاختطاف؟ أ الخنق؟ أالاغتصاب؟ أالسب ؟ أالتعذيب؟ أتهديد العائلات؟
تعزيز ماذا، من فضلكم؟
لا تعززوا أي شيء، فقد نلنا جرعتنا من حقوق الإنسان !
نسخة أخرى من هيأة الإنصاف والمصالحة ؟ وما الفائدة ؟
– حقوق النساء
قصة مكرورة أيضا ! نحن نهتز فرحا بالمدونة التي أصبحت “مُرَوَّنة” مادامت الكلمات الرنانة لم تواكبها إجراءات تصاحب تنزيل المشروع الجميل. لقد تم الاكتفاء بمنح حقوق صودرت قبل أن تمنح بفعل الفساد القضائي الذي يجعلها بعيدة المنال…
شكرا! بنات عمومتي في البادية أصبحن يتزوجن دون أية ضمانة قانونية؛ أما جارتي فقد حظيت بشرف إبلاغها بأن زوجها، الذي توقف عن إعالة أبناءه، يذخر ماله من أجل زواجه المقبل بشابة تعرف إليها بمطعم ماكدونالد : أي نعم ! ماكدونالد ! إنها الحداثة !
يا لحسن حظها ! لقد منحتها المدونة الجديدة الحق في أن تُبَلَّغ، يا لها من ثورة !
– الانتخابات ستكون حرة !
حقا ؟ هل هو اعتراف ضمني بتزوير سابقاتها؟
هنا حضرتني صورة جورج السادس المثير للشفقة وهو يصارع قدره، فقلت : هيا، قليلا من الإيجابية ! يجب أن لا نكون روافض ! لنتفحص الخطاب مليا فقد يكون هناك شيء جديد !
تذكرت هنا أستاذ رياضيات درسني، كان يردد أن “الذي يبحث دون أن يجد ، يجد دون أن يبحث”، فواصلت البحث إذا ف… وجدت !
– لعل الأمر الجديد هو الأمازيغية ؟
إنني أمازيغية، وسيعترف الدستور برمزي الوراثي رغم أنه لا يمكنني ادعاء نقاوة عرقي مع “كل هؤلاء الغزاة العرب الذين اكتسحوا حتى دمي”. (تعبير ساخر من فضلكم)
ترى ما الذي سأستفيد عمليا أنا سليلة آيت بيهي الشهير؟ أيا كان، فهذا الأمر دغدغ كبريائي وانتابني الزهو لأنني أحب كثيرا للا كلثوم، ذات القُصَّة شديدة السواد، والأطباق بنكهة زيت أركان.
من هي للا كلثوم؟ إنها قريبة أبي التي قضت عمرها في جلب الماء من البئر، والتي حُرِمَت ابنتها ثم حفيدتها بل وحتى ابنها من ارتياد المدرسة؛ فالسياحة بالصويرة المجاورة، تمتص هواءهم وماءهم وكل شيء. الجديد، أنه بإمكانها، بعد اليوم، أن تعيش خيبات أملها وفق الدستور، بل أن تحكيها بلغتها الأم لسيدنا عزرائيل.
لنعد إلى موضوعنا!
للا كلثوم ليست سوى”وْلِيَّة” 3 أمازيغية تعيش في بادية نائية؛ ومن يكترث لأهل البادية ولهم حظ امتلاك التلفاز؟ ما عليهم سوى التوقف عن جلب الماء من البئر والتمتع بمسلسل “نيران الحب” الذي سيدبلج حتما بتيفيناغ “أَدَاسْنْ إِيسَامْحْ رَبِّي”.
وعلى ذكر التلفاز والأمازيغية، وبعيدا عن للا كلثوم وصبيحاتها الباردة المُوحِلَة، سيصبح بمقدوري أن أشاهد المسلسلات التركية باللغة الأمازيغية : السوسية من فضلكم، بلهجة دوار آيت لْخُوخ قبيلة آيت زْلْطَن. أوقد يمكنني الحصول على لوحة ترقيم لسيارتي بتيفيناغ. رائع ! تخيلوا هذا الامتياز: فمع الإرتفاع المهول لحوادث السير، سأتمكن من الفرار بسهولة إن صدمت ضحية أخرى على إحدى طرقات الموت في المغرب، خاصة إذا كان الشهود عُرْبا يجهلون لهجتي. سأصبح رقما آخر في اللائحة الطويلة للمفلتين من العقاب.
هيا لنواصل !
ستمنح للوزير الأول سلطات تنفيذية أوسع !
بأي مقدار من فضلكم، كيلوغرامان ؟ نصف كيلو ؟
ماذا سينفذ سعادة الوزير؟ قرارات البرلمان؟ أوامر الملك؟ أم هل سينفذ فقط حكم الإعدام في الديمقراطية الوليدة مادامت الأغلبية التي سيتمخض عنها الوزير الأول لن تكون أكثر سلطة من الأقلية، ومادامت الأقلية والأغلبية في خدمة الملك وليس في خدمة الأمة.
سنُسْتَأْصَل (من الأصالة) ونَعْتَصِر (من المعاصرة) إذا في انتظار معاليكم، سيدي الوزير الأول القادم من الأغلبية المتنَفِّذَة المُنَفّْذَة.
لا بأس، لنمض، مزيدا من الصبر !
– اللا مركزية… الدمقرطة… إزالة الاحتقان… وقف التدجين… إلغاء الدستور… وتزاحمت في ذهني المفاهيم حتى غفوت…
ثم انتفضت من سِنَتِي. تذَكَّرت أنني لم أطلع بعد على رسائلي الإلكترونية. ففتحت “ياهو”، يا للمصادفة ! وجدت في الصفحة الأولى خبرا مثيرا حول شريط “خطاب ملك” : “كاد منتج فيلم “خطاب ملك” أن يفقد جائزة الأوسكار عندما أسقطتها أرضا، ابنته البالغة من العمر 15 شهرا”. ثم غفوت من جديد حاملة في أذني، إلى مملكة الأحلام، صدى انكسار الصنم المذهب.
لننم ولنحلم. قررت أن أحلم هذه المرة بتي فيناغ، ألم يصبح لي هذا الحق بنص الدستور؟..
مهلا مهلا ! ما زال الدستور الجديد مجرد مشروع!
في انتظاره، سيلاحقنا القمع الوحشي دائما وأبدا حتى عندما يأخذنا “سلطان” النوم بين ذراعيه دون أن يشفع لنا كوننا لم نبرح الملكية ما دامت للنوم أيضا مملكة…