بعد اطلاعي على محضر الضابطة القضائية بكل وثائقه، وعلى صك متابعة النيابة العامة، انتهيت إلى خلاصة مفادها أن الذي في قفص الاتهام والمعروض على المحاكمة ليس هو السيد مصطفى دكار، وإنما الذي يحاكم هو حرية الرأي والتعبير باعتبارها من أقدس الحقوق وآكدها، التي دافع عنها وناضل من أجلها العديد من رجالات القانون وفرسان العدالة وعلماء الاجتماع.
وهنا نستدعي قولة لعالم الاجتماع “سبينوزا” وهو أول من نادى بحرية الرأي والتعبير بقوله: “إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو عندما تبعث إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطعون إخفاءها”.
إن جل الأسئلة الموجهة للسيد دكار من قبل محرري المحضر تدخل في سياق محاكمة لنوايا افتراضية ولآراء ومواقف سلمية لا ترقى إلى الفعل الجرمي أو السلوك المجرم.
من قبيل:
▪ما هي الصفة التي تخول لك التدخل في هذا الشأن؟
▪ما هي الفئة المستهدفة من توجيه هذا الخطاب؟
▪ما هي الرسالة التي تسعى إلى تبليغها للمواطنين المتحلقين حولك؟
إن التدوينات والتصريحات موضوع المتابعة في حق السيد دكار لم تستهدف أي شخص لذاته ولا في حياته الخاصة، ولكنها تتعلق بمواضيع عامة وقضايا تهم الشأن العام، على رأسها التطبيع والمقاطعة وتدبير الملفات المحلية، وهي كلها قضايا تهم جميع المواطنين، ومناقشتها وإبداء الرأي فيها لا يمكن اعتباره جريمة، بل على العكس من ذلك هو شيء مطلوب لتجويد السياسات العامة وترشيد القرارات المتعلقة بالشأن العام، وتحقيق الحكامة الجيدة؛ ويجب على السلطات العمومية أن يتسع صدرها للنقد والتعليق، مادامت قراراتها وسياساتها تمس المواطن مباشرة في حياته اليومية، في انتمائه العقدي والقومي، في رزقه ومعاشه.
إن جل الجنح المتابع من أجلها دكار كانت على خلفية تدوينات وتصريحات له في وسائل التواصل الاجتماعي وهذ الفعل لا يمنعه القانون بل يكفله الدستور المغربي في فصله 25 الذي اعتبر: “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”، بل أكثر من ذلك جعل مجموعة من الحقوق المرتبطة بحقل حرية الرأي والتعبير من الحقوق المضمونة، حيث نص الفصل 29 من الدستور المغربي على أن “حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة، ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات، حق الإضراب مضمون، ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”.
نفس الحق نجد المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية نصت عليه بقولها: “لكل إنسان الحق في اعتناق أراء دون مضايقة ولكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو بأي وسيلة أخرى يختارها”.
إن متابعة السيد دكار من أجل التحريض على التمييز والكراهية بين الأشخاص، بناء على كونه نشر في صفحته بوسائل التواصل الاجتماعي تدوينة حول “اليهود” دونما أن يصفهم بأي وصف قدحي أو عنصري؛ ولم يأت أي شكل من أشكال التحريض على التمييز في حقهم، يفرض تبرئته من هاته المتابعة.
وإنه حتى على فرض حديثه عن اليهود فإن ذلك لا يتعارض مع القانون الجنائي ومع المتعارف عليه في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وكذا ما تتناوله المجلات والمراجع الدراسية الرسمية وكذا المواقع والمنابر الإعلامية لبعض الوزارات الحكومية من قبيل وزارتي التعليم والأوقاف والشؤون الإسلامية.
وفي هذا الباب نستدعي مجلة “دعوة الحق” التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ سنة 1957 التي تنشر العديد من المقالات التي تتحدث عن اليهود في قراءات ودراسات نقذية لهم نذكر من بينها العدد 161 الذي نشر مقالا تحت عنوان؛ “مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم حيال أعداء الإسلام بعد الهجرة، حيث جاء في إحدى مقاطع هذا المقال ما يلي: “وبعد صلح الحديبية وظهور بوادر الغدر من يهود خيبر ومدك وتيماء غزاهم الرسول عليه الصلاة والسلام وانتصر عليهم..”
وفي مقال آخر نشر بالعدد 215 من نفس المجلة تحت عنوان: الصهيونية ونشأة القضية الفلسطينية جاء في إحدى مقاطعه “قلنا وهذا ما نبهت إليه الآية الكريمة لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا المائدة الآية 82… قال الحافظ بن كثير رحمه الله معلقا… لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة الحق وغمط الناس، وقد اعتدوا على كثير من الأنبياء وحاولوا الاعتداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ما مرة فعصمه الله منهم، والغريب أن المسلمين تغافلوا من خطر الصهاينة حتى وقعوا فيما وقعوا فيه”.
إن الذي يحرض على التمييز والعنصرية هو رموز الكيان الصهيوني الذي نعت الفلسطينين بالحيوانات، ومن حرمهم من الماء والكهرباء والدواء والطعام، وارتكب مئات المذابح، وقال ينبغي أن نبحث عن شيء يؤلم الفلسطينين أكثر من الموت، ينبغي أن نهدم بيوتهم أمام أعينهم وعلى رؤوس أبنائهم وذويهم .
إن النيابة العامة تابعت العارض بجملة من الجنح من بينها “جنحة إهانة موظف عمومي”، والحال أن الفصل 263 من القانون الجنائي يستلزم للمتابعة بجنحة الإهانة توافر ركن مادي قوامه توجيه الإهانة لموظف عمومي أثناء قيامه بوظيفته، أو بسبب قيامه بها، بواسطة الأقوال والإشارات، أو التهديد، أو إرسال الأشياء أو وضعها، أو الكتابة أو الرسوم غير العلنية.
كما يستلزم أيضا توافر ركن معنوي يتمثل في وجود قصد للمساس بشرف الموظف أو بشعوره أو الاحترام الواجب لسلطته.
وحيث إنه تأسيسا على ما سبق وبرجوعنا إلى محضر الضابطة القضائية بمختلف عناصره ووثائقه، فإنه لم يتبث أن المتهم وجه الإهانة بالوسائل التي ذكرها المشرع في الفصل 263 من القانون الجنائي، بل لا تتوفر النيابة العامة على أي إثبات في الموضوع، والمتهم ينفي قصده الإساءة إلى أي موظف في الموضوع.
الأمر الذي يتعين معه التصريح ببراءته من هذه الجنحة عملا بالاجتهادات القضائية المتواترة لمحكمة النقض في هذا الباب والتي نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر، القرار عدد 6774 الصادر بتاريخ 31 أكتوبر 1983 الذي جاء في إحدى حيثياته “لما كانت المحكمة لم تبين العبارات غير اللائقة التي تكون العنصر المادي لجريمة إهانة موظف، فإن حكمها يكون ناقص التعليل ومستوجبا للنقض” مجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة الجنائية الصفحة 198.
وكذا قرار محكمة النقض عدد 2765 الصادر بتاريخ 18 يناير 1989 الذي جاء في إحدى حيثياته” إن المحكمة لما أدانت الطاعن من أجل جريمتي التهديد وإهانة موظف دون أن تبرز في قضائها أن التهديد كان مصحوبا بأمر أو معلق على شرط، وأن إهانة الموظف وقعت أثناء القيام بعمله ويقصد المساس بشرفه أو شعوره أو الاحترام الواجب لسلطته، يكون قرارها منعدم التعليل مما يستوجب نقضه” المرجع السابق الصفحة 206.
✍ ذ محمد النويني عضو هيئة الدفاع