يقول الله عز وجل في الآية 110 من سورة آل عمران: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ صدق الله العظيم.
حبا الله المنعم المتفضل أمةَ سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية وفضلها على سائر الأمم، وهي الأمة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر المؤمنة بالله.
من مظاهر هذه الخيرية يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” 1. والأهل هنا يشمل الزوجين والأبناء وذوي الأرحام وكل من تجمعنا بهم صلة في مجتمعنا.
يربط سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلة بين أفراد أمته الآمرةِ بالمعروف الناهية عن المنكر المؤمنة بالله، يربطهم ببعضهم بمفهوم الخير والخيرية.
يصور لنا الحبيب صلى الله عليه وسلم كل حالاتنا الأسرية الزوجية، الأبوية العائلية، والاجتماعية في لوحة ألوانها مشتقة من معاني الخير والقيم.
وكعادته سيدي المصطفى الحريص الأمين على أمته يقول لنا: “وأنا خيركم لأهله”؛ يدلنا من هنا الطريق باتباعه واتباع نهجه لتكون سنته وسيرته، أقواله وأفعاله، نجاة لنا من كل تفكك أسري، وفوزا لنا بكل خير واستقرار أسري واجتماعي.
1- العلاقة بين الزوجين
يقول الله عز وجل في الآية 21 من سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً.
يبين لنا الله عز وجل أن المراد في الكون والخلق من الزواج هو السكن والسكينة، الوسيلة لذلك هي المودة والرحمة. هي مفاهيم تسكن إليها الفطرة الإنسانية، وهي قيم أصيلة ترجع للإنسان بكل أطيافه أمانه واستقراره، وهي للمؤمن الموحد نبراس لحياة مطمئنة تعمها أنوار المودة ودفء المحبة والإحسان، وهي له خير معين على تحقيق العبودية لله والاستخلاف في الأرض.
وكل زواج يقوم على عكس مراد الله ينقلب فيه السحر على الساحر، فتصير البيوت مظلمة جافة تهوي بأصحابها إلى متاهات ومشاكل نفسية وأسرية واجتماعيه، تبعدهم وتصرفهم عن مراد الله.
نعم تكون في منظومة الزواج اختلافات وخلافات من المرأة والرجل، لكن إذا سمع كل واحد منهما بسمع قلبه ووعي عقله دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخيرية والسبق للحاق به صلى الله عليه وسلم في هذه الخيرية، صار سعي كل واحد منهما إلى أداء دوره على أفضلِ وجه، والإحسان إلى الآخر ابتغاء تحقيق مراد الله في خلقه، وبذلك تتحقق السكينة بين الطرفين بالمودة والرحمة الموعودة من الله عز وجل لهما.
يلتقي الزوج المؤمن برداء قوامته بالزوجة المؤمنة برداء حافظيتها في انسجام وتآلف إذا ما فهم كل واحد منهما خصوصية الآخر وتركيبته.
فليس الذكر كالأنثى؛ نستأنس هنا بتفسير الإمام الشعراوي للآيات الكريمات من أول سورة الليل: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغشى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى؛ حيث يقول رحمه الله: الذكورة والأنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعا، فهل نجري مقارنة بينهما أيهما أفضل؟! إن سعيهم مختلف ولكل منهما سعي مختلف، غير أن السعيين متكاملين لإنشاء التكامل الأعلى، فلا مجال للمقارنة بين الذكر والأنثى؛ فلكل دوره ولكل خصوصيته.
2- الأبناء
يشملُ معنى الخيرية للأهل الأبناء أيضا؛ فلذات الأكباد، فهم الخلف والزرع المنشود حصاده، ويكون لهم نصيب من السكينة التي تغمر جدران البيت؛ تهذب أرواحهم وتحافظ على فطرتهم. المودة والرحمة بين الأبوين هي غرس صالح يغذي الأمان النفسي للأبناء ويحيي الاستقرار العاطفي لديهم.
عن عبد الله بن الحارث، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُفُّ عبد الله وعبيد الله وكثيرًا من بني العباس، ثم يقول: “من سبق إلي فله كذا وكذا”، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره، فيقبلهم ويلتزمهم 2.
التربية ليست أوامر ونواهي فقط، والأبوة ليست توفير حاجيات مادية فقط، بل إنه إعداد جيل مؤمن، وحفاظ على فطرته وسلامة عقيدته.
يعلمنا سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للأبناء احتياجات نفسية، وعاطفية، وروحية واجتماعية، قد تفوق احتياجات جيلنا. الحضن والعناق لهما أثرهما العاطفي، إيقاد الحماس والتشجيع لاكتشاف الطاقات حاجة نفسية. نلبي لأطفالنا كل هذه الحاجات دون أن نغفل، بل وجب أن تكون الوجهة طلب المعالي والمسارعة للخيرات بين الأقران، فيكون الأساس في التربية عند الأبوين هو صناعة الرجال لبناء الأمة.
3- ذوو الأرحام والمجتمع
من البيت والأسرة المستقرة تشع روابط صلة الأرحام وزيارة الأهل والتآزر والتكافل. “خيركم لأهله” تشع في القريب من الأهل، وتنور الطرقات في المجتمع لتشمل كل مكوناته ابتداء من الجار إلى الزميل في العمل إلى عامل النظافة إلى كل مكونات المجتمع.
فمن البيت الذي تسكنه قلوب مؤمنة إلى المدرسة والمسجد فالحي تكون البيئة المناسبة لإنشاء جيل الخلافة. أطفال يتشبعون حبا من الجدة والجد، يتشربون معاني الإحسان والإيمان من المسجد، يتعلمون ويتربون في المدرسة، ويتأهلون ويشتد عودهم في مجتمع كل فرد منه هو خير لأهله.
وأختم بقول الإمام المجدد رحمه الله رحمة واسعة في كتاب العدل: “بالمودة والرحمة الحميمين يتميز الزواج المطابِق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة. وبهما لا بمجرد العَقْد القانوني يحصل الاستقرار في البيت، وبالاستقرار في البيت يشيع الاستقرار في المجتمع” 3.