كعادتنا بعد انتهاء العمل ونحن في طريقنا إلى مقر سكنانا، تبادلنا أطراف الحديث أنا وزميلي في العمل، تطرقنا لمواضيع شتى، مستوى المتعلمين المتدني، حالة الطقس المتقلبة، السياسة التعليمية والرتبة 154 عالميا، المدرسة الرائدة، مواضيع مختلفة تنطلق كيفما اتفق تزجية للوقت، وتنفيسا عن آهات وزفرات على الواقع المتردي، وفي سياق الحديث عن عزوف الشباب المتمدرس عن الدراسة، وبدون مقدمات أطلق صديقي صرخة من أعماق أعماق دواخله مستغربا عزوف الشباب عن الزواج وارتفاع نسب الطلاق.
قال: “إن ما أسمعه من نسب الطلاق شيء مقلق ومفزع”.
شاطرته الرأي، وقاسمته نفس تخوفاته، وتركته يسترسل: “إن المشكل يرجع إلى تحولات نفسية وفكرية وتصورات مغلوطة عن مفهوم الزواج لدى الشباب”، وبكل تلقائية أكدت ما قاله مضيفا إليه أهمية “العوامل الاقتصادية” في رسم مسار العلاقات بين الزوجين أو العدول عن الزواج أصلا، حاول محاوري الأستاذ في مادة الاجتماعيات بلع ما قلته، ليعاود التركيز على فكرته كأنما يحدث نفسه.
“إنك على حق، للعوامل الاقتصادية دورها، و ترخي بظلالها على استقرار الأسرة، لكن ليس هذا ما أعنيه، فآباؤنا وأجدادنا نجحوا في الحفاظ على أسرهم رغم عوزهم وفقرهم، بل هناك تصدعات خطيرة أصابت هذا الجيل على مستوى فهمه لمعاني الأسرة إلى درجة أن كل طرف يحمل مقاربات وتصورات عنها وعن الطرف الآخر، وهذا انعكس سلبا على استقرار الأسرة وتماسكها”
أكدت ما قاله بسرعة وعيني على الطريق حتى لا أخرق قانون السير، فيكون نصيبي أداء العقوبة، فمخالفة القانون يجر إلى عرقلة حركة السير والتضييق على حق الآخر، فالانسياب الهادئ لحركة المرور يرجع إلى احترام القانون، بحيث تعرف مالك وما عليك، ومن طبيعة الحال، أي حركة يشترك فيها اثنان فأكثر لا بد لها من قوانين وضوابط ترسم لكل طرف دوائر حركته لتتناغم وتتكامل مع دوائر الآخر، والأسرة ليست بمعزل عن هذه السنة الكونية والطبيعية.
أخبرته أن العزوف والطلاق وجهان لعملة واحدة، كلاهما ينخر في مؤسسة الأسرة، ويضعفها، وإن كان الطلاق قد يعتبر الحل النهائي عند استحالة العيش بين الزوجين، فيكون فيه الخير لهما رغم أضراره النفسية وعواقبه الوخيمة على الأبناء، أما العزوف عن الزواج لمن استطاعه فيعتبر ظاهرة مرضية تستحق المدارسة والتأمل قبل فوات الأوان.
استرسل صديقي: “ما قلته صحيح إذا كانت الأسباب وجيهة ومعقولة، لكن هذه النسب العالية من الطلاق تسائل القانونيين والمربين والمتخصصين عن أسبابها”
قلت في نفسي هناك خلل ما، وهو أشبه ما يكون بكومة خيوط مبعثرة، متداخلة، كل منا يمسك بطرف خيط منه، قل عنه اقتصادي، تربوي، أخلاقي، لم يمهلني كثيرا لأسترجع بعض الصور الناجحة من بيت النبوة في تعامله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه حيث الرفق، والتواصل، والمودة، والرحمة، والحب، فأطرقت سمعي له: “إن الزوجين اليوم لا يدركان قدسية العلاقة التي تربطهما، وكل واحد يدخل بيت الزوجية مصطحبا معه خزانا من المواقف والفهوم حول الحرية والمساواة والمسؤولية وحدود الواجبات، لدرجة أن كل واحد يبني جداره الخاص به ويتمترس بسوء الظن ب” شريكه”، أو يظن فيه الكمال المطلق كأنه تزوج ملكا لا بشرا”.
ويستطرد: “حتى أن معاني المودة والرحمة طمرتها رمال الماديات وغمرتها سيول الأنانيات، فالمحبة بين الزوجين لا يمكن أن تترجم إلى بنود قانونية وكأن مؤسسة الزواج عبارة عن شركة هدفها تحقيق الأرباح، لا، مؤسسة قوامها وغايتها المودة والألفة والثقة والتعاون وتربية الأبناء”.
قلت له: هون عليك، لقد غدا الزواج اليوم لبعض الرجال “شرا لا بد منه” ولبعض النساء أصبح لهن الرجل “فرصة النجاة” للاغتناء أو البريستيج الاجتماعي، فكيف، يا أخي، لمن ولج باب الزواج بهذه النية الناقصة والشاكة أن يفلح؟
تركت صديقي يرسل زفراته، ويشكو بكلمات متوهجة، ومنطقية، سوء الحال الذي وصلت إليه الأسر الحديثة العهد بالزواج، يقول: “العجب العجاب هو مبررات المطالبين بالطلاق كقول أحدهم: لم يعجبني، قبل الزواج كنت أظنه ظريفا فإذا هو شخص آخر، لن يحقق لي أحلامي، زوجتي متكلفة ومتطلبة، زوجي” ستايل ديالو” لا يناسب شخصيتي، زوجي يتجسس على هاتفي، زوجتي أخفت عني شفرة الدخول لهاتفها، زوجي عنيد، زوجتي مملة، زوجي يخفي مداخيله المالية، زوجتي لا تفارق صديقاتها، زوجي ينام مبكرا ولا يقول لي صباح الخير… “
ثم قال وقد استدار بكليته نحوي: “كل واحد يريد أن يحكم، ويسعى لفرض إيقاعه…”
رددت عليه بأن التنافس على القيادة أمر وارد، إذ كيف تطلب من فتاة تلقت نفس التعليم الذي تلقاه الرجل، وجلسا على نفس المقاعد، واجتازا نفس المسالك وقد تكون تفوقت عليه، كيف تطلب منها أن تسلم له القيادة داخل مؤسسة الأسرة لا لشيء إلا لكونه رجلا؟ ويزداد أمر القيادة صعوبة إذا كان لها مورد مالي تنفق منه.
قال: “الأمر عويص إذن” وهمّ بمواصلة الكلام، لولا إصراري على المتابعة قائلا إن المشكل لا يكمن في القيادة بل في عدم فهم كل طرف لوظيفته ومسؤوليته.
ألا تتفق معي يا صديقي أن نظامنا التعليمي لم يهيئ كلا من الرجل والمرأة لتحمل المسؤولية والاندماج داخل الأسرة، لذا بمجرد دخول الشباب إلى بيت الزوجية يتطاير الغبار وتنتفخ الأوداج ويرسل كل واحد للآخر تحذيرات عدم تجاوز الحدود..
ثم قال: ” هذا سبب آخر لهذه الصراعات والخلافات، فلا أحد من الزوجين يعرف المطلوب منه بالضبط”.
فقاطعته قائلا إن تعدد الأسباب، المنطقي منها والتافه، يخفي اختلالات خطيرة على مستوى القيم والأخلاق والتربية وخصوصا في عصر وسائل التواصل، واكتساح المادية الغربية لمجتمعاتنا، وسهولة العلاقات الإباحية العابرة والسريعة مما فتح المجال للخيانة والخداع والنفاق الاجتماعي، مع ما يصاحب ذلك من الأمراض النفسية والجسدية.
وأتممت كلامي بكون بعض الشباب ينظر لمؤسسة الأسرة كشركة أو مقاولة تجارية مبناها على تقاسم الأدوار مناصفة، وهي أفكار خاطئة تجر الزوجين لحياة صراعية تصادمية، وهي للأسف، أفكار يكرسها الواقع التعليمي والإعلامي.
ثم واصل حديثه: “هناك جهات تحرض النساء على الطلاق عن طريق تقديم خدمات الإرشاد الأسري، وكلها تنفخ في بالون الأنانية بدعوى خصوصية المرأة وحريتها، فعند أدنى خلاف تهمس في أذنها: طلقيه، فالرجال كثر، ابحثي لك عن تجارب جديدة، جددي حياتك وغيري زوجك كما تغيرين حذاءك إذا خف بريقه أو ضاق عليك، اصنعي مستقبلك بنفسك، الرجال غدارون خائنون يعرقلون نجاحك…”
يا أخي إنها نفس الجهات تخوف الرجال من الزواج، وتحذرهم من الوقوع في شباكه، حتى لا يسقط الشاب فريسة في مصيدة فتاة محتالة كذوبة تستولي على ثروته، هكذا يسوقون له الزواج ويصورونه في مخيلته حتى يقف المسكين حائرا مترددا متوجسا كأنه مقبل على حرب ضروس لا على مساكنة ورحمة ومودة.
وأتممت كلامي ونظري على الطريق، فقلت: هكذا تصب النصائح على رؤوس الشباب صبا فيخربون بيوتهم بأيديهم، حاولت إقحام العوامل الاقتصادية في تفسير ظاهرة التشظي الأسري وتشتت العلاقات، لكنه قفز على الفكرة قفزا متجاهلا هذا العامل، ليتوقف كثيرا عند العوامل النفسية والتصورية والقيمية، وكأن هناك حية تنفث سمومها بين الزوجين، وكأن هناك هوة سحيقة تباعد المسافة بين الرجل والمرأة، وكأن أياد خبيثة تنثر بذور الشقاق والصراعية بينهما، لتنعدم الثقة، ويحل الشك محل حسن الظن، فيتريث الرجل مخافة الوقوع في حبال المرأة التي ستستنزف ثروته وعاطفته وتغرقه في الأولاد وتطلب الطلاق لتبحث عن ضحية آخر.
اختطف الكلام من فمي كما يخطف اللاعب الكرة من منافسه، ومضى يدحرج الكلمات تلو الكلمات قائلا: “البيت لا بد له من قائد كما السفينة لا بد لها من ربان، والربان بدون مساعدين لن يقطع المحيط ولن ترسوا سفينته، وسفينة الحياة لن تحلو ولن تسعد إلا بزوجين يجمعهما رباط المودة والرحمة والاحترام والتعاون والتكامل والتضحية”.
أعجني كلامه، وشاطرته الرأي وسقيت فكرته الشبيهة بوردة حمراء بماء زلال صاف، فالوردة الحمراء لتنمو وتزهر وتفوح رائحتها لا بد لها من الكلمة الطيبة والاحترام والتقدير والاهتمام والتغاضي والتفنن في أساليب التوادد والمحبة، كما ينبغي تعلم طرق التجاوز عن الهفوات، إذ الإنسان معدن الخطأ والزلل، وإذا هبت رياح أحد الزوجين هوجاء لا تبقي ولا تذر فعلى الآخر أن ينحني للعاصفة حتى تمر، فلكل عاصفة سكون، ثم تتلطف الأجواء بالكلمة الطيبة والهدية الجميلة واللمسة الحانية.
استحسن رفيقي مقالتي وقبل أن أصغي لكلامه، دست على الفرامل برفق حتى وقفت السيارة، فأمامي إشارة مرور كتب عليها “قف”. طبعا وقفت، ليس خوفا، ولكن احتراما لحق الآخرين، وما أجمل أن تكون في حياة الزوجين علامات قف، يتفقان عليها في بداية حياتهما، وهي ترجع لطبيعة تكوين الزوجين ونفسيتهما وعاداتهما، وكثيرا ما يكتشف كل واحد منهما علامات المنع هاته بعد المعاشرة والمعايشة، كما يتفنن الحاذق اللبيب منهما في فتح ممرات العبور بعيدا عن حواجز المنع، ففي الطريق إشارات بألوان وأشكال وكلها تسمح بالمرور وتحذر من المخاطر وتوجه دفة الأسرة إلى باحات الاستراحة قبل مواصلة طريق الحياة.
نظرت إلى رفيقي بعد أن استأنفت السير فإذا به يتهيأ لمرافعة حجاجية ضد مخربي الأسرة ومفسدي تصورات الشباب عن الزواج، فهو يحمل الإعلام هذه المسؤولية حيث يظهر الأزواج في خصام دائم ونكد مستعر وتنافس على القيادة (الحكام)، وهذا يمكن المقبلين على الزواج من أدوات القتال في حلبة المصارعة (البيت) لإرغام الخصم على التلويح بمنديل الاستسلام. هذا دون الحديث عن الذين أقنعتهم الدعاية المغرضة بالعزوف عن الزواج واختاروا العيش بمفردهم واستنزاف زهرة حياتهم في علاقات محرمة مضطربة، فحرموا أنفسهم من سعادة الأسرة، واستعاضوا عنها بسعادة وهمية حبلى بالأمراض النفسية والجسدية.
فجأة أحد مستعملي الطريق ارتكب مخالفة كادت تتسبب في حادثة لولا لطف الله، هذا الطائش يجب أن تسحب منه رخصة القيادة. كيف يستأمن على سلامة الآخرين وهو المتهور الطائش؟ وكم داخل الأسر من متهورين طائشين ما كان ليسمح لهم بالزواج لو كان للزواج رخصة تؤهل المقبل عليه لبناء أسرة وتربية أبناء. فالزواج الناجح يتطلب توفر مؤهلات نفسية وأخلاقية واقتصادية قبل الحصول على الإذن بالزواج.
قلت لصديقي إن سلامة البدايات تبشر بالتوفيق والنجاح في النهايات، لقد مضى زمن “زوجوه إدير عقلو” كأن المرأة وصفة علاجية لرجل معطوب معلول، يجب أن يكون الرجل كامل النضج والوعي قبل الزواج، فهذا الميثاق الغليظ ليس مغامرة لتقويم اعوجاجات الرجال أو النساء على حد سواء. وأتمّ صديقي فكرتي، كأننا نعزف على وتر واحد، “ومن سلامة البدايات النية الحسنة والتوكل على الله واستحضار الزواج باعتباره عبادة وتقربا إلى الله تعالى”.
واستطردت بعد لحظة صمت كادت تنهي موضوع الدردشة وكأن كل واحد منا قد استقل طائرته الخاصة لتجول به في كهف أفكاره وتساؤلاته، فقلت إن الزواج قرار واختيار ومسؤولية وصبر، وبيت الزوجية إذا غابت فيها المعاني الإيمانية من صلاة وذكر وقرآن واستحضار لمراقبة الله تعالى لن يقوى على مواجهة رياح الفتنة وسيغرق في وحل الماديات والأنانيات. وعلى الرجل ألا يعتبر الزواج شرا لا بد منه بل هو خير ونعمة وعبادة، وعلى المرأة ألا تعتبر الرجل وسيلة ومطية لتحقيق رغباتها المادية، بل يجب أن تعتبره أنيسا لها ومؤنسا وعونا على العفة والحياء والوفاء، ومعينا لها على الاستقرار العاطفي والنفسي والاجتماعي.
وهمست لصاحبي مبتسما وقد ولجنا وسط المدينة بصخبها وضوضائها وزحمتها وأشرفنا على نقطة الوصول، ألا يمكن للزوجين التناوب على قيادة السيارة ما داما حاصلين على رخصة السياقة؟ بادلني الابتسامة بأخرى تخفي تفاصيل الجواب عن سؤال سيظل معلقا إلى دردشة أخرى، لينصرف كل منا إلى بيته وفي انتظاره ابتسامة أبنائه.
وهكذا انتهت محاورتنا الهادئة والصادقة بانتهاء رحلتنا، أما رحلة الأزواج فلا نهاية لجمالها وحسنها، فهي رحلة تبدأ هنا لتنتهي هناك، قال تعالى: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون {الزخرف:70/69}