درس عملي في التعامل مع الأبناء

Cover Image for درس عملي في التعامل مع الأبناء
نشر بتاريخ

يجد كثير من الآباء والأمهات عنتا في التعامل مع أطفالهم، ويستوي في ذلك المثقفون وغيرهم، الأغنياء وسواهم، الحضريون وما عداهم. ويرجع أهل التربية وعلم النفس أن الفشل الذريع في فهم الأطفال واستيعابهم يكمن إما في الصرامة المفرطة أو التسيب المطلق، ووسط الطرفين يقتضي رحمة وحكمة وبعد نظر، فسياسة النفوس ليست عملية آلية تقنية تنسحب على الأطفال جميعهم، بل لا يثمر مفعول السياسة الواحدة بين الأبناء الأشقاء من نفس الأب والأم.

وتجد أحيانا كثيرة داخل الأسرة الواحدة أخوين بل توأمين يختلفان في الطبع والاستعداد والانضباط، وفي ردة الفعل، وفي إظهار العواطف والأحاسيس وإخفائها… فكيف نفسر هذا الاختلاف، الذي يبلغ في بعض الأحيان حد النقيض، مع وجود نفس البيئة ونفس الأبوين ونفس نمط العيش ونفس البرامج والتأطير؟

وقد يسهم في ضعف تفهم الأطفال وحسن التواصل معهم أن الأب أو الأم أو كلاهما يرسم في ذهنه صورة مثالية للطفل يسعى لنسخها في الواقع ويتمنى تقديمها للعائلة والمجتمع بفخر واعتزاز، فيخالف الواقع المتوقع فيلجأ الأب أو الأم إلى فرض أسلوبه وسياسته وإجبار الابن على التنفيذ تحت مسميات متعددة؛ منها أنهما أدرى وأقدر من الابن على إدراك مصلحته ومستقبله، وتحت غطاء المحبة أو الطاعة.

ويفوت فرصة النجاح في التربية أن يتوخى الوالدان أو أحدهما الطفل متخلقا متزنا فيظهره للمجتمع في صورة المؤدب المهذب، ولا يضرهما إن كان في ذلك كثير من التكلف والتصنع.

ولعل خبراء طب الأسنان يدركون أن السن الأقوى والأمتن هي التي تكون على سجيتها وطبيعتها وإن ظهرت للرائي في غير الحجم والمنحى المثالي. لذلك تراهم لا يؤيدون عملية تقويم الأسنان إلا في حالات مخصوصة.

ويروى أن أحد العلماء كان يلقي درسا في باحة المسجد، وأنه أوتي قبولا وإقبالا، فطلبة العلم على كثرتهم يستمعون وكأن على رؤوسهم الطير، وذات يوم وبينما حلقة العلم في أوجها، انسل بين الصفوف طفل، فاقترب من الشيخ وهمس في أذنه بكلام لم يفهمه غيره، فاستلم الشيخ من الطفل قصبة وأخرج سكينا فشرع يعالج القصبة، ولم يلبث أن صنع منها مزمارا، ثم استأنف ما كان بصدده من شرح وتفسير، ولما ختم الدرس قال: “لعل بعضكم لم يستلطف انشغالي بالصبي وتركي درس العلم، أما إني سمعت رسول الله يقول: (من كان له صبي فليتصاب له). وقال بابتسامة عريضة: احمدوا الله أن الصبي لم يطلب مني أن أجرب المزمار”.

درس عملي أفهم الشيخ الحاضرين من خلاله أن الصبي مرفوع عنه القلم فلا يحاسب ولا يعاقب، وأن التصابي الموصى به في الحديث هو التعامل مع الطفل حسب فهمه هو، وطبيعته هو، وسجيته هو، وفي عمل الشيخ إشارة إلى الروايات المتظافرة التي تنبئ أن سبطي الرسول صلى الله عليه وسلم امتطيا ظهره الشريف وهو ساجد ولم يستعجلهما، كما أعلم الشيخ أن فضاء الطفل اللعب واللهو والسرور، فمن أراد أن يجعل من الصبي راشد بالغا حليما متزنا نموذجا في التخلق والتدين فقد خالف الفطرة ويوشك أن يغير خلق الله. فحين يطلب من الطفل أن يتقمص شخصية مع الضيوف والزوار، وشخصية مع أقرانه وشخصية مع أهل البيت…. فكل ذلك تصنع وتكلف وهو ممقوت. وبناء شخصية الطفل يحتاج ولا شك إلى حرية وهامش خطأ وتشجيع على الإبداع وتدريب على المبادرة، شريطة التمسك بالثوابت والقيم، والتوجه الدائم إلى من بيده ملكوت كل شيء.