لما كان ميلاد الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم يوما مشهودا اهتزت له الأكوان واستنارت بنوره الوضاء الأرجاء، فانقشعت غياهب الظلم الحوالك، ومُزقت حجب الجهالات المتراكمة المتوغلة قرونا طوالا، فكان قدومه عليه السلام قدوم زمن فاصل لأطوار التاريخ الإنساني ككل، زمنٍ تغير فيه الإنسان وتحققت إنسانيته، وانتصرت الشريعة الكاملة على حياة الغاب، والتنظيم المحكم على قانون العصابات، فانسكبت الرحمة الربانية زلالا على البشرية الحائرة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فعمت الرأفة البسيطة، واندرست زلازل الحروب الطاحنة الناشئة على أتفه الأسباب، وأفلت شراسة الهمجية الضروس وأخذت في الزوال شيئا فشيئا، وآن لتعاليم الأنبياء المتوارية خلف جدران الأديرة والكنائس المهترئة أن ترى النور والظهور مقارنة بعهود الإذلال والغلظة الجافية التي سرت في عهود الظلم والظلام التي كانت سببا في اندراس تلك التعاليم وانطماسها، فضلا عن تدن لأخلاق الناس ولو كانوا من أهل الحضارة والمدنية، لتجد الجموع الغفيرة منغمسة في الحمأة الدنسة، وكارعة من مناهل الأدناس الآسنة، خضوعا للأوهام وسجودا للأهواء ولهثا وراء الجِيف ولعاعات المصالح الزائلة.
ولما كان ذاك اليوم يوم ميلاد جيل الرحمة والهداية، جيل أصحاب اغترفوا من مشكاة النبوة رأسا فغدوا جبالا راسيات ثبتت بهم الأرض، وتغيرت ذكرا وعدلا وشورى، لأنهم بُنوا بتزكية الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وصُنعوا على عينه، ولو لم يكن له عليه السلام من معجزة سوى أصحابه لكفوه دليلا قويا وحجة باهرة على إثبات نبوته وصدق رسالته، وفضلا عن تخريج الأصحاب والأولياء والأبدال والخلفاء، فهناك الإسعاد المطلق للبشرية بأن كان عليه السلام سببا في بيان المنهاج القمين بولوج باب الوصول والسعادة الأبدية، ولو بقيت الإنسانية في غيها وجهالتها وجحودها ما نجت أو سعدت، أما في الآخرة ففضل أمير الأنبياء صلى الله عليه وسلم عظيم على الخلائق كلهم بشفاعته عليه السلام التي أذهبت لظى النيران وهول المطلع وألم النشور والحساب، فإذا ظن الظان بأنه رجل أدى رسالة فحسب وانقطع فضله فهو واهم لا محالة، لأننا إذا سلمنا بأنه بشر عابر، لقبع الناس في اللهيب، وطوقوا بأغلال التعذيب، وصفدوا بسلاسل الإحراق، إذ لا دخول للجنان إلا عن طريقه ولا سعادة إلا بشفاعته.
ولما كان ذاك اليوم كذاك، يوم مسعود بولادة فخر الوجود صلى الله عليه وسلم، فإن المحبين للرحمة المهداة احتفلوا بذلك اليوم، وجعلوا الاحتفال به سنة دائمة، عرفانا منهم لِما فاض من طلعته الميمونة من إنارة للطريق وإسعاد في الدنيا والآخرة، فترى عوام المسلمين فرحين بمولده عليه السلام، يعلوهم الحبور والبهجة والسرور، وتجد علماءَهم محبرين تآليف كثيرة وتصانيف عديدة في مولده عليه الصلاة والسلام، ومن أجمع ما حرر في ذلك: جامع الآثار في مولد النبي المختار) في ثلاثة مجلدات ومورد الصادي في مولد الهادي) واللفظ الرائق في مولد خير الخلائق) للإمام العلامة الأوحد الحجة الحافظ مؤرخ الديار الشامية وحافظها: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القيسي الدمشقي الشافعي المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي ، وكذا التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية، وغير ذلك من المصنفات(1) لكنه برزت نابتة ادعت بدعية الاحتفال بدعوى عدم ورود نصوص شاهدة على ذلك، لكنه عند التحقيق وجدنا الادعاء متهالكا متهافتا لِما في ذلك من أدلة شرعية مبيحة لهذا الفعل ومجيزة للمولد نوردها اختصارا.
1. إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحتفل بيوم ميلاده صياما، لأنه لما سئل عليه الصلاة والسلام عن سبب صيامه يوم الاثنين قال: “فيه ولدت، وفيه أنزل علي القرآن”(2)، واحتفل عليه السلام بنجاة موسى عليه السلام من بطش فرعون واستبداده يوم عاشوراء صياما، ودرجت على ذلك الأمة اقتداء به عليه الصلاة والسلام، ولا حرج إذا عضد الاحتفال بما عند الناس من عوائد في احتفالهم، حذاء أو ترنما أو تغنيا أو رقصا كرقص الأحباش في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن وسائل الفرح والابتهاج خاضعة للعرف وعوائد الناس، لا تقييد فيها من قبل الشارع شرط انعدام المخالفة.
2. إن الكون بكل ما فيه قد احتفل بيوم ميلاده عليه السلام، إيلاما لعبدة النار من جهة وإبهاجا وتفريحا لأهله عليه الصلاة والسلام من جهة أخرى، لأنه ليس عبثا أن تنضب بحيرة سارة، ويسقط ديوان كسرى، وتضرب شعاعات الأنوار في المدائن في ذاك اليوم، ولو لم يكن ذلك اليوم مشهودا لما عرف الكون كله تلك الحركة، ففي الاعتقاد للبيهقي(3): ومن دلائل ما حدث بين يدي أيام مولده ومبعثه صلى الله عليه وسلم من الأمور الغريبة الأكوان، العجيبة القادحة في سلطان أمة الكفر، والموهنة لكلمتهم المؤيدة لشأن العرب المنوهة بذكره، كأمر الفيل وما أحل الله بحزبه والنكال، ومنها خمود نار فارس، وسقوط شرفات إيوان كسرى، وغيض ماء بحيرة ساوة ورؤيا الموبذان وغير ذلك …).
وفي الدلائل: عن مخزوم بن هانيء عن أبيه – وكانت له عشرون ومائة سنة – قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، فسقطت منه أربع عشر شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة، ورأى الموبذان كأن إبلا صعابا تقود خيلا عرابا حتى عبرت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، فتجلَّد كسرى وجلس على سرير المُلك، ولبس تاجه، وأرسل إلى الموبذان، فقال يا موبذان: إنه سقط من إيواني أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل اليوم بألف عام، فقال: وأنا أيها الملك قد رأيت كأن إبلا صعابا تقود خيلا عرابا حتى عبرت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، قال: فما ترى ذلك يا موبذان؟ – وكان رأسهم في العلم- قال حَدثٌ يكون من قِبل العرب، فكتب حينئذ: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أنِ ابعث إلي رجلا من العرب يخبرني بما أسأله عنه، فبعث إليه عبد المسيح بن حبان ابن بقيلة(4).
يقول الحافظ في الفتح(5) ومما ظهر من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم عند مولده وبعده، ما أخرجه الطبراني عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم لما ضربها المخاض قالت: فجعلتُ أنظر إلى النجوم تدلى حتى أقول لَتَقعن عَليَّ، فلما ولدَتْ خرج منها نور أضاء له البيت والدار، وشاهده حديث العرباض بن سارية، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك؛ إني دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت. أي أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام”(6).
وفي الطبقات الكبرى(7) قالت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم لقد عَلِقت به – تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني، خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع على الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها، ورفع رأسه إلى السماء. وقال بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه رافعا رأسه إلى السماء، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رأت أعناق الإبل ببصرى.
وفي رواية إسحاق بن عبد الله أنها قالت: لما ولدته خرج مني نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا، ولدته كما يولد السخل ما به قذر، ووقع إلى الأرض وهو جالس على الأرض بيده.
ويقول الإمام الطبري(8): اعلم أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث أنها لما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا، عن عثمان بن أبي العاص قال حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك ليل ولدته قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي!
وهكذا فإن هذا التحرك الذي شهده الكون بمظاهره لم يكن عبثا من قبل الخالق سبحانه، بل هو دال بلسان حاله على فرح الأكوان بسيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم، وهل يعقل أن نكون أقل فرحا من أغنام بني سعد، وأتان مرضعته رضي الله عنها، والأرض التي اخضرت فرحا بقدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن ذاك الفرح لبقي القوم جياعا يتعاورهم الفقر والخصاص بنير القحط الذي أجذب أراضيهم، تقول مرضعته رضي الله عنها(9): أخذته أي الرضيع محمد صلى الله عليه وسلم فرجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري: أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما وما كان ينام قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا إنها لحافل، فحلب منها حتى شرب وشربتُ حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول لي صاحبي حين أصبحت، أتعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، قلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا، وركبتُ أتاني تلك، وحملته عليها معي، فوالله لقطَعت بنا الركب، ما يقدم عليها شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، أربعي علينا، أليس هذه أتانك التي كنت خرجتِ عليها؟! فأقول لهن: بلى والله إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها لشأنا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح عَلي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة ولا يجدها في ضرع، حتى إنْ كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم، حيثُ يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب!، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نتعرف من الله زيادة الخير به حتى مضت سنتان…).
نعم لقد كان الجود والخير والبركات مرسلة لبني سعد أرضا وأغناما وضروعا فرحا بالقادم عليه الصلاة والسلام وهي لا تعي شيئا، فما بالك بالمحبين الذين علموا بأن سبب حياتهم وسعادتهم منوطة بمحبته عليه السلام واتباعه واقتفاء آثار سنته رأفة ورحمة وخلقا ولينا وحكمة ووُدًّا لله ومحبة له سبحانه، فإن ولادته والاحتفاء بها قبس من صدق المحب لمحبوبه صلى الله عليه وسلم.
3. ولِما عرفه الناس من جميل صفاته صلى الله عليه وسلم وحسن نعوته وسماته، فإننا وجدنا أهله قبلا من المحتفين بيوم ولادته عليه الصلاة والسلام، يقول الإمام ابن الجوزي(10): وقال العباس بن عبد المطلب: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا فأعجب ذلك عبد المطلب وحظي عنده، وقال: “ليكونن لابني هذا شأن من شأن”. فكان له شأن. وروى يزيد بن عبد الله بن وهب عن عمته أن آمنة لما وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى عبد المطلب، فجاءه البشير وهو جالس في الحجر، فأخبره أن آمنة ولدت بذلك، وقام هو ومَن معه فدخل عليها، فأخبرته بكل ما رأت، وما قيل لها وما أمرت به، فأخذه عبد المطلب فأدخله الكعبة، وقام عندها يدعو الله ويشكر ما أعطاه.
وعن محمد بن عمر الأسلمي قال أُخبرت أن عبد المطلب قال يومئذ:
الحمد لله الذي أعطاني
هذا الغلام الطيـب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان
أعيذه بالله ذي الأركان
حتى أراه بالـغ البنيــان
أعيذه من شر ذي شنآن
من حاسد مضطرب العنان
وكذا العباس بن عبد المطلب – كما روى ابن الجوزي في الصفوة- أنه قال: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، قال: “قل، لا يفضض الله فاك”. فأنشأ يقول:
من قبلها طِبت في الظلال وفي
مستودع حيث يخصف الورق
ولم يكره ولادته عليه السلام سوى اليهود الذين خالوا بأن النبوة انقطعت من نسلهم، وانتقلت إلى ولد إسماعيل، وكأن النبوة ملك عاض يُورث ويتسلسل تقليدا، مما يشي بجهالتهم الجهلاء وفهومهم الخرقاء تجاه حكمة الله عز وجل وكرمه واصطفائه لعباده الخُلص الكمل لاسيما المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول الحاكم النيسابوري رضي الله عنه: “عن عائشة رضي الله عنها قالت كان زفر قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش: “يا معشر قريش هل الليلة مولود ؟!، قالوا: والله ما نعلمه. قال: الله أكبر، أما إذا أخطأكم فلا بأس، فانظروا واحفظوا ما أقول لكم، وُلد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عُرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعيه في فمه فمنعه الرضاع. فتصدع القوم من مجلسهم وهم متعجبون من قوله وحديثه، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا: قد وُلد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا. فالتقى القوم فقالوا: هل سمعتم حديث اليهودي، وهل بلغكم مولد هذا الغلام؟ فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي، فأخبروه الخبر، قال فاذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا حتى أدخلوه على آمنة، فقال: أخرجي إلينا ابنَك، فأخرجَته، وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة، فوقع اليهودي مغشيا عليه! فلما أفاق، قالوا ويلك ما لك؟! قال: ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل ! فرحتم به يا معشر قريش، أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب ! وكان في النفر يومئذ الذين قال لهم اليهودي ما قال: هشام بن الوليد بن المغيرة، ومسافر بن أبي عمرو، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب. وعتبة بن ربيعة شاب فوق المحتلم في نفر من بني مناف وغيرهم من قريش”(11).
4. إجماع العلماء على تجويز المولد واعتباره عملا مستحسنا، ففي إعانة الطالبين لأبي بكر الدمياطي(12) ورد ما يأتي: كتابة مدح المصطفى بخط من ذهب على ورق، مِن خط أحسن مَن كتب، وأن تنهض الأشراف عند سماعه قياما صفوفا أو جثيا على الركب، عمل جليل، فعند ذلك قام الإمام السبكي وجميع مَن بالمجلس، فحصل أنس كبير في ذلك المجلس، وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك مستحسن.
قال الإمام أبو شامة شيخ النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكر الله تعالى على ما مَنَّ به من إيجاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين.
قال السخاوي: إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
وقال ابن الجوزي: من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام، وأول من أحدثه من الملوك: الملك المظفر أبو سعيد صاحب أربل، وألف له الحافظ ابن دحية تأليفا سماه التنوير في مولد البشير النذير فأجازه الملك المظفر بألف دينار، وصنع الملك المظفر المولد وكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما عادلا، وطالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر الفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة، محمود السيرة والسريرة.
واستنبط الحافظ ابن حجر تخريج عمل المولد على أصل ثابت في السنة، وهو ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قَدِم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى ونحن نصومه شكرا، فقال: نحن أولى بموسى منكم، وقد جوزي أبو لهب بتخفيف العذاب عنه يوم الاثنين بسبب إعتاقه ثويبة لما بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم، وأنه يخرج له من بين إصبعيه ماء يشربه كما أخبر بذلك العباس في منام رأى فيه أبا لهب.
ورحم الله حافظ الشام شمس الدين محمدَ بن ناصر حيث قال: إذا كان هذا كافرا جاء ذمه وتبت يداه في الجحيم مخلدا، أتى أنه في يوم الاثنين دائما يخفف عنه للسرور بأحمد، فما الظن بالعبد الذي كان عمره بأحمد مسرورا، ومات موحدا.
وقال الحسن البصري قدس الله سره: وددت لو كان لي مثل جبل أحد ذهبا لأنفقته على قراءة مولد الرسول.
وقال الجنيد البغدادي رحمه الله: من حضر مولد الرسول وعظم قدره، فقد فاز بالإيمان.
وقال معروف الكرخي قدس الله سره: من هيأ لأجل قراءة مولد الرسول طعاما، وجمع إخوانا، وأوقد سراجا، ولبس جديدا، وتعطر وتجمل تعظيما لمولده حشره الله تعالى يوم القيامة مع الفرقة الأولى من النبيين وكان في أعلى عليين.
وقال الإمام اليافعي اليمنى: من جمع لمولد النبي صلى الله عليه وسلم إخوانا، وهيأ طعاما، وأخلى مكانا، وعمل إحسانا، وصار سببا لقراءة مولد الرسول بعثه الله يوم القيامة مع الصديقين والشهداء والصالحين ويكون في جنات النعيم.
وقال السري السقطي: من قصد موضعا يقرأ فيه مولد النبي صلى الله عليه وسلم فقد قصد روضة من رياض الجنة، لأنه ما قصد ذلك الموضع إلا لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه السلام: “من أحبني كان معي في الجنة”.
وقال سلطان العارفين جلال الدين السيوطي في كتابه الوسائل في شرح الشمائل: ما مِن بيت أو مسجد أو محلة قُرىء فيه مولد النبي صلى الله عليه وسلم إلا حفت الملائكة بأهل ذلك المكان، وعمهم الله بالرحمة، والمطوقون بالنور يعني جبريل وميكائل وإسرافيل وقربائيل وعينائيل والصافون والحافون والكروبيون، فإنهم يصلون على من كان سببا لقراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وما من مسلم قُرىء في بيته مولد النبي صلى الله عليه وسلم إلا رفع الله تعالى القحط والوباء والحرق والآفات والبليات والنكبات والبغض والحسد وعين السوء واللصوص عن أهل ذلك البيت، فإذا مات هَوَّن الله تعالى عليه جواب منكر ونكير، وكان في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وهكذا فإطباق العلماء وإجماعهم لم يكن عبثا أو مبنيا على الضلال والابتداع، لأنهم عقلاء هذه الأمة، ومن ثم فإنه لا يلتفت إلى من دونهم، لاسيما من كان متعصبا لرأي، أو من كان قلبه خلوا من حب الرسول صلى الله عليه وسلم.
5. حكم الوسائل حكم المقاصد، وهذا الاحتفال عند التحقيق مفض لمقاصد عظيمة كمعرفة أخلاقه عليه السلام، والتعرف على منهاجه، وكيفية تغييره للأنفس والآفاق، وبذلك يزداد حبه صلى الله عليه وسلم في القلوب وهو فرض لازم للمؤمن، وإلا كان إيمانه منتفيا عند العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم: “والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”(13)، فتلهج الأفئدة بذكره والصلاة عليه وتهفو للإقتداء به والسير في طريقه مع محبة آل بيته وصحابته، ومن ثم كانت هذه الوسيلة ضرورية شرعية لتحقيق تلك المقاصد.
6. إن عوائد الناس وأعرافهم تكون مرسلة في عرف الشرع، ولا يطالها التقييد الشرعي ومن ثم لا يمكن أن نحكم على أن من خالفها أو زاد فيها شيئا بأنه مبتدع خارج عن الشرع، كالاجتماع للاحتفال بمناسبة البيادر والحصاد أو ميلاد شخص، لأن هذا الاحتفال غير قاض على الطريقة الشرعية أو مضاهي لها، ومن ثم فهو مباح ذاك الاحتفال.
7. بشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفت البقاع التي ولد فيها عليه الصلاة والسلام، وقد يُقبل الحجر الأسود إذا قبلته شفاه المحبوب، ولم يحب أنس الدِبَّاء إلا لما رآه من حب المحبوب لها،
خليلي من نجد قفا بي على الربا
فقد هَب من تلك الديار نسيم
ثم هبطـت البـــلاد لا بشر
أنت ولا مضغة ولا علــق
بـل نطفـة تركب السفين وقد
ألجم نسرا وأهله الغـــرق
تنقل من صـالــب إلى رحم
إذا مضى عالم بدا طبـــق
حتى احتوى بيتك المهيمن من
خندق علياء تحتها النطــق
وأنت لمـا ولدت أشرقــت
الأرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضـياء وفي
النور وسبل الرشاد نختــرق
يقول الحاكم النيسابوري(14) مفتخرا بصلاته في زقاق الدار التي ولد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: “وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في الزقاق المعروف بزقاق المدكل بمكة، وقد صليت فيه، وهي الدار التي كانت بعد مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في يد عقيل بن أبي طالب في أيدي ولده بعده”.
وهي دار المصطفى عليه الصلاة والسلام إذا أطلق لفظ الدار، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: “يا رسول الله أتنزل في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رِباع أو دور”. وكان عقيل ورث أبا طالب ولم يرثه علي ولا جعفر، لأنهما كانا مسلمين. يقول الحاكم: احتج الشيخان بهذا الحديث.
يقول الإمام القرطبي عن ابن إسحاق قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين عام الفيل لاثنتي عشرة مضت من شهر ربيع الأول، وقيل إنه ولد صلى الله عليه وسلم في الدار التي تعرف بدار ابن يوسف(15).
إن مكة لم تزدد فضلا و شرفا إلا لأنها المحضن الذي احتضن المصطفى صلى الله عليه وسلم بولادته فيها، يقول صاحب الإحكام: الآمدي(16): إن مكة مشتملة على أمور موجبة لفضلها، كالبيت المحترم، والمقام، وزمزم، والحجر المستلم، والصفا والمروة، ومواضع المناسك، وهي مولد النبي عليه السلام ومبعثه، ومولد إسماعيل، ومنزل إبراهيم.
وهكذا فمن عرف مقدار النبي صلى الله عليه وسلم شرف البقاع المنتسبة إليه لأنها متعلقة به، ولا يجوز لعاقل ازدراؤها والتنقيص منها، لأن في ذلك ازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو كانت الذريعة المتخذة ما كانت كذريعة سقوط العوام في الشرك، لأنها فرع ظني، وإذا رجعت على الأصل بالإبطال أزيلت بلا إشكال.
وعلى العموم هذه قبسات في الاحتفال بمولد الهادي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله تعالى أن نكون من محبيه ومتبعي سنته الكاملة رحمة وعدلا وإحسانا، وممن اقتفوا أثره في العلم بالله وخشيته والتذلل بين يديه وارتقاء منازل الإحسان صعودا. والحمد لله رب العالمين.
(1) للاستزادة ممن صنفوا في المولد يمكن الرجوع للمصنفات الحديثية الآتية: الثقات ج: 1 ص: 14، وذيل تذكرة الحفاظ1 ج: 1 ص: 320، صفة الصفوة ج: 1 ص: 52، فضلا عن كتب الطبقات وغيرها.
(2) انظر صحيح مسلم، الجزء الثاني، باب استحباب ثلاثة من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والإثنين والخميس برقم 1162.
(3) الاعتقاد للبيهقي، ج1، ص 257.
(4) دلائل النبوة لإسماعيل بن محمد الأصبهاني، ج 1، ص 135. وانظر التاريخ للإمام الطبري، ج1، ص 459. والإصابة، ج: 1، ص: 360.
(5) فتح الباري، ج6، ص 583.
(6) أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم.
(7) الطبقات الكبرى، ج1، ص 102، لمحمد بن سعد بن منيع البصري.
(8) تاريخ الإمام الطبري، ج1، ص 454.
(9) المصدر السابق نفسه.
(10) صفوة الصفوة، ج1، ص 52.
(11) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(12) إعانة الطالبين لأبي بكر بن محمد شطا الدمياطي، ج3، ص 364.
(13) متفق عليه.
(14) الحاكم النيسابوري في المستدرك، ج2، ص 657.
(15) تاريخ الطبري، ج1، ص 453.
(16) الإحكام للإمام للآمدي، ج1، ص 304.