حملة الفجر العظيم التي انطلقت من فلسطين الحبيبة، ومن الأرض المباركة المسجد الأقصى -وقد وصل عبيرها إلى ربوع العالم الإسلامي ولقيت استجابة واسعة ولا تزال- لها دلالات كثيرة، وتحمل في طياتها رسائل غزيرة، منها تمثيلا لا حصرا:
1- مركزية الوقوف على باب الله تعالى في أي خطوة يخطوها المومن، أو أي معركة من معارك البناء والمقاومة التي تتصدى لها أمتنا الإسلامية.
الإعداد العام السياسي والاقتصادي والفكري والتنظيمي، الذي يقوم به المؤمنون والمؤمنات لابد له من روح تسري في النفوس، وهي نسمة الإقبال الكلي على المولى تبارك وتعالى، ونور العبودية المطلقة لله رب العالمين. والصلاة تعبير حقيقي عن هذا المعنى العميق في القلوب.
2- النصر بيد الله تعالى منه وحده، يقول تعالى: “وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ”. وحتى يتحقق هذا النصر لابد من شروط ومقومات وأهمها إطلاقا الشرط الذاتي، وهو الثبات على طاعة الله تعالى وذكر الله تعالى الكثير والصلاة، من الذكر: يقول الله موجها المؤمنين في كل زمان عند مواجهة الباطل وأهله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ 1.
ووقت نصر الله لا يعلمه إلا الله تعالى، فقد يظهر للناس انسداد الآفاق، ويتفشى فيهم اليأس والقنوط، وتنغلق لديهم نوافذ الأمل والرجاء في التغيير، فيفاجئهم فتح الله ونصره. يقول الله تعالى: “حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ” 2.
يحرص المؤمنون على أسباب النصر، من إعداد العدة وقراءة الواقع وترصيص الصفوف، وفقه الحركة وإحكام الخطة على أساس تربوي متين عنوانه: يا رب يا رب.
3- لا فصل أبدا بين مقاومة الظلم وهو معنى من معاني الجهاد، وبين الوقوف بين يدي الله تعالى. ومن فَصل بينهما فتدينه منشطر مشتت.
روى البخاري رحمه الله عن بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى عليه وسلم قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: “الصلاة على ميقاتها، قلت ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله”.
فالمؤمن حقا من جمع بين ثلاثية العبادة الحقة ورأسها الصلاة، ثم حسن الخلق، وأدب المعاملة، ورفع الظلم عن الناس وهو الجهاد.
فتأتي هذه الحملة لتذكرنا جميعا أن الأمر مفتول مربوط، لا ينفك هذا عن ذاك.
الصلاة والدفاع عن المقدسات، وتمتين لحمة المسلمين بالصلاة الجماعية ثلاثة أبعاد لمادة واحدة.
4- الصلاة هي حصن المؤمن وملجأه الذي يأوي إليه، وسلاحه الذي يتترس به من العدو، والحبل الممدود بين الله تعالى وبينه، وهي مناجاة مع الرب الكريم، وبلسم الأرواح، ودواء الأسرار، وقضاء الحاجات، وإغاثة للملهوف، وتقوية للضعيف، وعطاء للمحتاج… وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وحز به بمعنى نزل به أمر مهم أو غم أو قضية كبيرة. وكذلك المؤمن يبادر إلى الصلاة فيجد فيها بغيته وطلبته، يهرب إلى ربه يناجيه، يسأله يشكو إليه أحزانه، يطلب منه السداد والصواب يطلبه هو تعالى دون غيره، ويطلب من الكريم للناس أن يكون سعداء. هذا حال المؤمن وحال الأمة العام يكون في حال قادتها ومسؤوليها.
روى الإمام مالك أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كتب إلى عمّاله: “إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ. فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا، حَفِظَ دِينَهُ. وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ”. كانت الأمة حية بحياة حكامها والقائمين عليها، وكان الأمر الأعظم الأهم عند أمير المؤمنين عمر الصلاة، وهي وصيته إلى المسؤولين عن الأقطار الإسلامية آنذاك. وانظر الآن إلى حالة اليأس والشتات التي تعيشها الأمة وتضييع أمانة الصلاة والدعوة إلى الصلاة، ولا أحدثك عن أمانة العدل وإقامة الميزان.
لما كانت البوصلة واضحة وكان حاملو البوصلة في الاتجاه الصحيح، يحملون شعوبهم ويحملون عن شعوبهم، كانت الصلاة مفتاح كل نصر وتمكين، وتقوى الله هي المعنى الذي يسري في كيان الأمة.
ولن يكون للأمة قيام مشهود إلا بإقامة الصلاة. وسيكون إن شاء الله. وعد من الله.
5- من هنا يأتي النصر، كلمة لا زالت تتردد على مر التاريخ وتسمعها النفوس المتوفزة لكل خير، قالها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى وهو يتفقَّد أحوال الجند ليلاً، فوجد خيمة بِها عددٌ من الجند يقرَؤون كتاب الله ويَقُومون الليل، فقال رحمه الله “من هنا يأتي النصر”، ومرَّ على أُخْرى، فوجدها نائمة، فقال: “من هنا تأتي الهزيمة”.
6- المعاصي والغفلة عن الله سبب الهزيمة والفشل:
أذكر بهذه الرسالة النفيسة الجامعة لسيدنا لعمر رضي الله تعالى عنه، المنبهة المحذرة من مغبة الركون إلى الدعة والكسل والارتماء في أحضان الغفلة والمعاصي. وهي رسالة لنا جميعا.
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما- ومن معه من الأجناد:
” أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصي، منكم من عدوّكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا.
واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله، يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله؛ ولا تقولوا إن عدوّنا شر منا فلن يسلّط علينا، وإن أسأنا؛ فربّ قوم سلّط عليهم شر منهم ، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفّار المجوس، فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا”.
7- التركيز على صلاة الفجر لأن لها ميزات تميزها عن باقي الصلوات الأخرى. ومنها كما قال تعالى: “إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا” 3، وفيها البراءة من النفاق، وتعلم الصبر والإرادة، ويبدأ بها المؤمن نهاره وقد أدى فرضه وطلب ربه أن يوفقه في سائر يومه. وغيرها من الميزات والفضائل.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون”.
ومن يصليها في المسجد ومع الجماعة فذاك عنوان الإرادة وقهر النفس ودلالة على الصبر والمكابدة.
عندما سُئلت جولدا مائير رئيسة وزراء سابقة للكيان الصهيوني متى تخشون من العرب والمسلمين؟ فأجابت: “عندما يصبح أعداد المصلين في صلاة الفجر مساوياً لعددهم في صلاة الجمعة”.
9- النفس الجماعي والارتباط الروحي الذي يجمع بين الشعوب الإسلامية واستشعار وحدة الانتماء -رغم المحاولات المستميتة للمعاول السلطانية الاستكبارية من أجل هدمها- فبمجرد إطلاق النداء من داخل فلسطين كانت الاستجابة العفوية والفورية من باقي البلدان الإسلامية. وهذا يدل على أن قضية فلسطين معجونة في طينة كل مسلم ومسلمة، منغرسة في كل القلوب.
8- القدرة على الإبداع والتجديد التي منحها الله تعالى للمرابطين في أرض الإسراء والمعراج، تجدهم دائما يبهروننا بإرادتهم العالية وهممهم السامقة ومبادراتهم النوعية رغم الحصار والتضييق والخذلان، ومن ذلك هذه الحملة المباركة، فحياهم الله تعالى وزادهم الكريم سبحانه من فضله ونوره وقوته.