دور القرآن في طلب الولاية.. الإمام المجدد أنموذجا

Cover Image for دور القرآن في طلب الولاية.. الإمام المجدد أنموذجا
نشر بتاريخ

كلام ﷲ نور منه تعالى أنزله على عباده، وأودعه أسراره جل شأنه، وهو التجلي المسطور لجلاله وعزته، والدستور الذي سطره العدل جل وعلا للبشرية لتُحَكّمه في أمورها، فتسمو وترتقي وتحقق الخلافة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة، فمنه وفيه وبه يستقيم سير السائرين إليه عز وجل، وإلى تعاليمه يدعو كل داع إلى الخير والبر، فهو صاحب الفضل كله في بلوغ مراتب النبوة والولاية والصديقية.

فضل كلام ﷲ على الأنبياء والرسل

كلام ﷲ تعالى صانع الأنبياء عليهم السلام، من علمنا منهم ومن لم نعلم؛ إذ بتنزله على قلوبهم الطاهرة تغير مسار حياتهم، وبه أعدهم رب العزة ليكونوا خير البشر وأفضلهم، وتقلدوا مسؤولية توجيه الناس ودلالتهم على طريق ﷲ، وتعليمهم أفضل الأعمال وأعلاها شأنا، قال سبحانه: قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَيٰٓ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالَاسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوس۪يٰ وَعِيس۪يٰ وَمَآ أُوتِيَ اَ۬لنَّبِيٓـُٔونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَۖ [البقرة: 135].

فقد تنزلت الصحف على إبراهيم، وصدق بها، فنال الإمامة وأصبح أمة، واصطفاه ﷲ للخلة المباركة مع رب الأرباب، ولم يضِل مَنْ بعدَه إلا حين محيت آيات ﷲ من صدورهم وابتعدوا عن تعاليمها في أعمالهم، فعبدوا الأصنام واتبعوا الشهوات، قال عز وجل: وَإِذِ اِ۪بْتَل۪يٰٓ إِبْرَٰهِـيمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّے جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماٗۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِےۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِيَ اَ۬لظَّٰلِمِينَۖ [البقرة: 123].

واختار ﷲ عز وجل موسى كليما له، قال تعالى: قَالَ يَٰمُوس۪يٰٓ إِنِّے اِ۪صْطَفَيْتُكَ عَلَي اَ۬لنَّاسِ بِرِسَالَتِے وَبِكَلَٰمِے فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ اَ۬لشَّٰكِرِينَۖ [الأعراف: 144]، وقال سبحانه: وَكَلَّمَ اَ۬للَّهُ مُوس۪يٰ تَكْلِيماٗۖ [النساء: 163].

وتنزلت عليه التوراة فصار نبيا من أولي العزم، هزم جبروت فرعون وجنوده، وغير حال بني إسرائيل، فصاروا أسيادا في حقبتهم، وما حقت عليهم لعنهم الملك الجبار إلا بعد تحريفهم لكلامه عز وجل، وقتلهم الأنبياء، ونقضهم العهد معه سبحانه بأن لا يتخذوا من دونه وليا.

قال تعالى: وَلَقَدَ اٰتَيْنَا مُوسَي اَ۬لْكِتَٰبَ وَقَفَّيْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ بِالرُّسُلِۖ وَءَاتَيْنَا عِيسَي اَ۪بْنَ مَرْيَمَ اَ۬لْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ اِ۬لْقُدُسِۖ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهْو۪يٰٓ أَنفُسُكُمُ اُ۪سْتَكْبَرْتُمْۖ فَفَرِيقاٗ كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاٗ تَقْتُلُونَۖ [البقرة: 86].

وتنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام فصار نبيا مرسلا، وأصلح كثيرا من الآفات التي ظهرت في قومه (بني إسرائيل)، وما عادوا إلى غيهم وضلالهم إلا يوم حرفوا وزوروا واتخذوا من الإنجيل ما يحلو لهم، وتركوا ما لا يسير على هواهم، قال تعالى: وَلَمَّا جَآءَ عِيس۪يٰ بِالْبَيِّنَٰتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ اَ۬لذِے تَخْتَلِفُونَ فِيهِۖ فَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُونِۖ [الزخرف: 63].

وكذلك سيد المرسلين؛ رسول ﷲ ﷺ، شرفه ﷲ بأن جعل قلبه محطا لتنزل آخر الكتب وأثقل الآيات، وأعظم المعجزات؛ القرآن الكريم، قال عز من قائل: اِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيٰ نُوحٖ وَالنَّبِيٓـِٕۧنَ مِنۢ بَعْدِهِۦۖ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيٰٓ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالَاسْبَاطِ وَعِيس۪يٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيْمَٰنَۖ وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُوراٗۖ [النساء: 162].

وحي وقرآن به ارتفع شأن الأنبياء من قبله، وبه سيرتفع شأنه عليه الصلاة والسلام، لتحصل له الولاية الكاملة والنبوءة الخالدة إلى آخر الزمان، إذ اصطفاه ﷲ لختم رسالاته في العالمين، وتبليغ أعظم دعوة لله في الأولين والآخرين.

دور القرآن في ترقي الرعيل الأول وتابعيهم

في حياة النبي ﷺ وبعد التحاقه بالرفيق الأعلى، لن تجد من الصحابة الكرام ولا من تبعهم، من ارتقى وسلك إلى ﷲ دون أن يكون للقرآن فضل ومنة عليه، والأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى، كانوا يحفظون القرآن في صدورهم، ويحكِّمونه في أمورهم، ويدعون إليه غيرهم، حتى فازوا وأفلحوا وصار يضرب بهم المثل في التقوى والورع، فنالوا به مراتب الولاية والقرب من ﷲ جل شأنه.

فبالقرآن وآياته وتشريعاته يحصل لطالب الولاية السلوك السوي في الطريق الوعر المليء بالعقبات والشهوات، قال تعالى: اِنَّ هَٰذَا اَ۬لْقُرْءَانَ يَهْدِے لِلتِے هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ اُ۬لْمُومِنِينَ اَ۬لذِينَ يَعْمَلُونَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمُۥٓ أَجْراٗ كَبِيراٗ [الإسراء: 9]، القرآن هو الهادي إلى الطريق السالك القويم، وهو المبشر بالوصول والفوز بالولاية والأجر العظيم.

إذ كيف يصل المريد وجه ﷲ دون أن يستمع وينصت لكلامه سبحانه، فهو منه وهو حجته على البشر يوم يبعثون.

دور القرآن في تنشئة الإمام المجدد رحمه الله

لن يكون الإمام المجدد عبد السلام ياسين بدعا ممن سبقوه ممن سلكوا إلى ﷲ من الأولياء وممن اصطفاهم رب العزة من الأنبياء، بل هو على نهجهم سار، وعلى هداهم اقتدى، إذ كان كلام ﷲ تعالى؛ القرآن الكريم أول درجات علو شأنه، مُذْ كان صبيا، في الرابعة والخامسة من عمره، حيث حفظ كلمات ﷲ، ووعاها صدره الصغير، قبل أن يزيد ويستزيد من علومه ومن شتى العلوم الأخرى التي طورت مدارك شخصيته، فتعلم اللغة العربية وقرض بها الشعر وهو في الثانية عشر، وشُغف بتعلم اللغات، فتعلم عددا منها، ما أهله للتبحر في أغلب ثقافات الأمم المختلفة بروح وعقيدة وفكر قرآني نابع من الوحي الذي أنزله ﷲ للمؤمنين ليزدادوا إيمانا، قال تعالى: إِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ اَ۬لذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَ۬للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُۥٓ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمُۥٓ إِيمَٰناٗ وَعَلَيٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَۖ [الأنفال: 2].

وتبع ذلك مسيرة حافلة بالكفاح والعمل والجد لتبليغ ما جاء به القرآن في مجال التعليم وتربية الأجيال وفي الكتابة والتأليف، وتلت ذلك سنوات من الانقطاع للعيش بين آيات الرحمان، في زاوية بعيدة عن ضوضاء الحياة الصاخبة؛ حتى تشرب المعاني العظام والمقاصد العليا لتنزل القرآن.

فقام رحمه الله إلى أفضل وأعظم مراتب الجهاد وهي كلمة حق في وجه سلطان جائر متسلط على رقاب العباد، فكان مصيره كمصير من سبقه من المجاهدين الصادعين بالحق، العاملين بما جاء من كلام رب العالمين؛ غياهب السجون وزنازن الظلام، فلاذ إلى الأنس بكلام العدل القوي الجبار، فعكف في محبسه يتعهد قرآنه ويقوي تثبيته في صدره؛ مؤكدا بذلك على أن القرآن هو الحبل المتين الذي لن يزل ولن يذل من تمسك به، وقد عرف عنه رحمه ﷲ أنه قضى ستة أشهر يقرأ القرآن ويختمه في جلسة واحدة بسجن لعلو في 1984م.

كان له رحمه ﷲ أوراد قرآنية متنوعة، فتارة يسمعه من أفواه أكابر القراء، وتارة يقرأه بصوته، وأخرى يقيم به ليله، وأعظم من ذلك الدعوة إليه ومدارسته مع الإخوة المؤمنين المتشوقين لمراتب الإحسان.

فصار القرآن في حياته رحمه ﷲ هو المبتدأ وإليه المنتهى وبه العمل وإليه الدعوة وبه النصح والإرشاد.

وصايا الإمام في التمسك بالقرآن

ما فتئ الإمام المجدد رحمه ﷲ يوصي بالقرآن وحفظه والانجماع عليه والعمل بمقتضاه، وذلك في كل مناسبة أو لقاء أو زيارة؛ كما تروي لنا صويحِباتنا اللواتي شرفن بلقائه.

فالقرآن هو قطب الرحى في فكره ودعوته رحمه ﷲ، قال في ذلك: “القرآن شفاء لما في الصدور، شفاء ورحمة للمومنين، على تلاوته وحفظه ومدارسته والعكوف عليه مدار طب القلوب وإعدادها لتمتلئ إيمانا، هو النور” [المنهاج النبوي، 156].

كان دائم السؤال في لقاءاته عن عدد حفظة القرآن، ويحث البقية على ذلك، وفي أحد هذه اللقاءات الربانية، وجه كلمة حازمة لأعضاء الجماعة خاصة، فقال رحمه ﷲ: “لابد أن يرسخ في أذهانكم أن وجودكم في جماعة العدل والإحسان ومضي زمان معها، إن لم تستفيدوا منه حفظ القرآن فقد ضيعتم أنفسكم”، وأضاف رحمه ﷲ: “يجب أن يكون كل واحد منا مدرسة قرآنية متنقلة عبر الأجيال”.

كان يقين الإمام أن لا سلوك للمريد وجه ﷲ دون علاقة متينة بكتاب ﷲ، تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا، ولذلك كرس جل وقته لصحبته، وربى نساء ورجال وشباب العدل والإحسان على ذلك.

وعلى ضوء ما سبق فإن أي محاولة للسلوك إلى ﷲ والوصول إلى الولاية والقرب منه عز وجل لن يحصل للمؤمن إلا عن طريق صحبة القرآن، ولا عجب؛ إذ هو كلامه سبحانه الذي أودعه نوره وتجلت فيه عزته، قال تعالى: وإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ [فصلت: 40]، وشرف تعالى البشرية بنزوله عليهم وجعله سلما للارتقاء في معارج الكمالات والفضائل، وآياته تعداد لدرجات جنان الخلد، وباب لولوج رحاب الفردوس الأعلى.