دور المداراة في تلطيف العلاقات الأسرية

Cover Image for دور المداراة في تلطيف العلاقات الأسرية
نشر بتاريخ

تعتبر الأسرة مأوى التقاء شطري النفس البشرية، ومركز وجود الإنسان ونموه ومستقره، هي سكن واستقرار ينبني على المودة والرحمة، وتعد المؤسسة التربوية الأنجع لصناعة الفرد وإعداده، والحاضنة الأساسية لتعزيز مكارم القيم والأخلاق.
والارتباط الأسري بين المرأة والرجل مبني على ضوابط وأسس ملزمة لإدامته واستقراره، فهو عهد يؤخذ بين اثنين، قوي صلب لا تزحزحه العقبات ولا عوائق الحياة، فهو ميثاق غليظ أساسه المودة وقوامه العدل والإنصاف والرحمة التي تزكو بالمعروف والإحسان.
ولا تخلو الحياة الأسرية من الخلافات والمشاكل التي قد تمر بشكل عارض، و لا نعيرها انتباها كافيا ولا نحاول حلها بشكل حاسم، فتتراكم وتتفاقم حتى تصير أكثر تعقيدا. وقد تسبب الغلظة والشدة والخشونة في التعامل نفورا وتشنجا بين الزوجين، ومن القواعد التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها “فن المداراة” كما جاء في الحديث الشريف: عن ابن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، ولن يهلك امرؤ بعد مشورة”.
فالمداراة ملاينة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم، وهي من مصلحات البيئة الزوجية، بل من أساسياتها، فما أحوج الزوجين إلى هذا الخلق الرفيع الملطف للعلاقات، والمساعد على بناء أسر قوية متينة يطبعها الاستقرار والتوازن، أسر مبنية على المودة والرحمة والتعاطف والتياسر، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في ملاينة أهله وكسب ودهم، وقد وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن حاله مع أهله، قالت: “كان كرجل من رجالكم، غير أنه كان من ألين الناس (وفي رواية: أكرم الناس)، وأحسن الناس خُلقًا، وكان ضحَّاكًا بسّامًا”.
فالمداراة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحسن الخلق الذي تكلم عن منهجه السلف والخلف، وجمعوا فيه بين الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء.
وحتى عندما سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: “تقوى الله وحسن الخلق”.
فالعلاقات الزوجية، بل والأسرية كلها، ينبغي أن تحظى بالحظ الأوفر من ذلك، لأنها علاقة مستمرة عبر الزمان والمكان، تقتضي بذلا متبادلا وخفض جناح وكياسة ومداراة وتغافلا ليبقى الميثاق الغليظ متماسكا.
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: “جاءني رجل فقال: يا أم عبد الله إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك، قالت إني إن رخصت لك أبى ذلك الزبير، فتعال فاطلب إلي والزبير شاهد. فجاء الرجل فقال: يا أم عبد الله إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك، فقالت: مالك بالمدينة إلا داري! فقال لها الزبير: مالك تمنعي رجلا فقيرا يبيع، فكان يبيع إلى أن كسب”.
ولاشك أن هذه اللباقة والكياسة في التعامل قد اكتسبتها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن؛ وقد تربت في أحضان النبوة واكتسبت النباهة واستوعبت ملطفات العلاقات الأسرية، وكانت نموذجا يحتدى، ففي الأثر أنها دخل عليها جدها أبي قحافة وما كان وقتها قد أسلم وهو كفيف، فقال لها: “ما أرى أباكم إلا قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه”، فأخذت أحجارا ووضعت فوقها ثوبا ليتحسسه فقال: “لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن”.
فهذا نموذج يحتدى وغيره كثير ممن تربى في كنف النبوة وتعلم قواعد الخلق الرفيع لتمتين أواصر المحبة بين الناس، والتعامل معهم بطلاقة وجه وبشر، بكلمة طيبة مشجعة ومبشرة، وقد تثني على من قدم خيرا، وتشكر أهل الفضل على فضلهم، فتلك قمة مكارم الأخلاق.
وقد تحدث الإمام المجدد رحمه الله تعالى في التنوير على أهمية وضرورة فقه المعايشة في الحياة الزوجية قائلا: “الزواج تلاطف وتعاطف، والخشونة علاج مشروع لحالات شاذة، أو تسلط من قِبَل رجل لا يحسن القيام بمأموريته ومسؤوليته، فيفشل في سياسة سفينته وتوجيهها، فلا يشعر إلا وهي نهبٌ للصخور والمخاطر، فيعنُفُ ويتخبّط ويَخْبِطُ. الزواج ألْفةٌ وقربٌ، والخشونة نُفور وإِبعاد“. وقال في موضع آخر: “المداراة تعني السياسة الكيِّسة، ومراعاة نفسية المرأة، وما جُبلَت عليه مما لا يتفق وأسلوب الرجل في الحياة وطريقته في التفكير، ومنطِقهُ في تصنيف أهميات المعاش وأولوياته”.
ولنا في سيدنا إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة وهو يخاطب أباه بالكلمة الطيبة واللين وخفض الجناح والتلطف، بالرغم مما يقابله من ردود فعل غاضبة ومن تهديد ووعيد، يقول الله تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا.
ومع هذه الملاينة والحنو قابله أباه آزر بالتهديد؛ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا. فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن سلم لقدر الله غير يائس ملتمسا مغفرة الله تعالى: قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا.