مقدمة
أكرم الله عز وجل المرأة بوظيفة الأمومة، إذ جعل أحشاءها قرارا مكينا للإنسان وهو نطفة ثم جنينا، وأودعها الرحمة التي ترعاه بها في جميع مراحل عمره.
فهل تقتصر مسؤولية المرأة اتجاه أبنائها على المأكل والمشرب والملبس والرعاية الصحية والتعليمية وغيرها من الحاجات لنمو الأطفال؟
وهل يكفيها أن تربي نشئا منتهى اهتماماته لا تخرج عن دائرة الدراسة والعمل، سيما واﻷمة تعيش مخاضا عسيرا؟ أم هناك مسؤولية أخرى وماهي طبيعتها؟
للإجابة على هذه الأسئلة أقف مع موضوع “دور المرأة في إعداد الرجال وتربية اﻷجيال: المرأة الفلسطينية نموذجا”، للكشف أولا عن مهمة المرأة المسلمة في التربية، ولبيان دورها في خدمة الرسالة ثانيا، وثالثا للوقوف مع نموذج المرأة الفلسطينية في تربية أجيال المقاومة والعزة والكرامة…
المحور الأول: دور المرأة المسلمة في الحفاظ على حبل الفطرة ممتدا عبر الأجيال
إذا كان الله عز وجل قد خص الرجال بالقوامة، فإن ما خص به المرأة هو الحافظية، حيث قال في محكم تنزيله: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ (النساء، 24).
إذن للحافظية معنى عميق عظيم، ميز به الله سبحانه المرأة، لما تحمله من دلالات وصفات طلب رضا وتقوى الله، ومراقبته في نفسها وفي بيتها وزوجها وأولادها ومجتمعها، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ (النساء، 34). الصلاح والقنوت هما مقومان لهذا الحفظ، فلا تصون غيبة الزوج وتصبر على تربية الأولاد، وتصطبر على الوظيفتين داخل البيت وخارجه، إلا القانتة المحتسبة. القنوت أمر بالطاعة وتهيئة للنفس لتتحمل أنواع العقبات، فهو القائل سبحانه لمريم المبتلاة في عرضها وولدها وفي استقرارها بين أهلها يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي واركعي مع الراكعين (آل عمران، 43).
ومن أعظم المسؤوليات التي أودعها الله المرأة حفظ حبل الفطرة عبر الأجيال.
فما المقصود بالفطرة؟
هي كلمة قرآنية تدل على الأرضية النفسية للكائن البشري، الفطرة الاستقامة الأصلية على الدين، والاستعداد الفطري لاتباع الحق والاستقامة على أمره. قال الله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (الروم، 29).
فكيف تحفظ المرأة حبل الفطرة عبر الأجيال؟
1- المرأة حافظة لفطرة الصلاح من الانحراف والاعوجاج، فكل مولود يولد على الفطرة، يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” (صحيح البخاري، رقم الحديث 1267)، فإما تحفظ وترعى ويؤتى خراجها، وإما تضيع وينمحي أثرها، فهي بمثابة بذرة يهبها الله، ما على الأم إلا تعهدها بماء القيم والمبادئ والأسس الدينية والأخلاق النبوية.
2- المرأة حافظة الفطرة بما هو حفظ واستمرار للجنس البشري، لأنها هي محضن الأجنة ومستودعها. تحفظ اﻷم أطفالها بالتغذية الجيدة والصحية، وتحفظ عقولهم من المفاسد التي يروجها إعلام اليوم، تلقنهم مبادئ الدين، وتتعهدهم بالرحمة، وتحيطهم بالدعاء. تسهر على تعليمهم، وتتعهد صحتهم. يقول الإمام الغزالي: “اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة … فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب”.
3- حفظ الفطرة بما هو تنشئة إيمانية وتربية روحية تصل الفرع باﻷصل. يقول الله عز وجل في سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (الأعراف، 172).
4- حفظ الفطرة هو الحصن المنيع أمام تفلت زمام التربية من يد الوالدين، وصد لهجوم صريح على الفطرة الإنسانية التي تمج الرذيلة بطبعها وتتقزز من بشاعة القتل والاغتصاب وزنا المحارم والقاصرين.. وقافلة الفساد والإفساد طويلة..
5- حفظ الفطرة هو أساس بناء لجيل صالح علما وعملا تعبدا ثم تخلقا، يقول تبارك وتعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ (التوبة، 109).
ويقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمة الله عليه: “جعل الله عز وجل حبل الفطرة ممتدا عبر الأجيال عن طريق الأمومة، مفتولا مبرما، شقاه جسم الجنين ثم الطفل، وروح الطفل يحبو نحو الرجولة وينهض وله من قدوة أمه وكلماتها البسيطة وإخبارها بحقائق وجود الله تعالى وخبر الآخرة زاد منه يستفيض عمره” (العدل، 302).
6- حفظ النشء المسلم هو بناء أمة، لذلك فإن حفظ الفطرة من أهم مقومات سلامة الأمم، وكل تشويه لها هو نذير سقوطها مهما كانت قوتها.
قد تتساءل الواحدة منا أنى لي ذلك؟ والجواب عنه نحاول صياغته من خلال المحور الثاني.
المحور الثاني: دور المرأة في خدمة الرسالة وبث معاني الأمل واليقين في موعود الله والنصرة والتمكين
نعيش اليوم في واقع انطمست الفطرة خلف الاستهلاك والمتْعة والشهوة، وفقدت المرأة فيه كما الرجل كثيرا من الثقة في ما من شأنه أن يبشر بغد أفضل، لكن هل ذلك ينسينا مهمة الأبوين؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ” رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فالولد الصالح ذخر للأمة في الدنيا ولوالديه في الدنيا والآخرة.
أن يكونَ صالحًا حقًا مُهيئًا لخدمة دين الله في أرض الله.. أن يكونَ صالحًا حقًا يحمل قضية دينه على عاتقه يُهيئ جميع أسباب الحياة إلى النجاة بها لا إلى الفرار منها.. أن يكونَ صالحًا نافعًا لدينه ولنفسه ولأمته، هذا سيعود عليك أنت، سيدعو لك، لأنك هيّأته لهذا الصلاح.
يُروى من باب الفكاهة الجادة أن المرأة في سالفِ العصر و الأوان، كانت عندما تريد أن ترضع طفلها، تسم الله بنية أن يكون ذا شأنٍ عظيمٍ عندما يكبر، فارساً، عالماً، قائداً، لهذا كان أجدادنا عظماء، أما اليوم فإن معظم نسائنا يرضعن أطفالهن بنية أن يناموا، لذلك فالأمة معظمها نائمة، ولا نية للصحوة.
هذه الرواية وإن جاءت على شكل رواية ساخرة، ومقارنة بين زمانٍ مضى لم نعشه وبين زمانٍ نعيش فيه، إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من العبر والعظات، وأهم عبرة يمكن تعلمها هو أنه لا يُزِغنا واقع موبوء عن التمسك بأساسيات التربية السليمة، وذلك من خلال:
1- تجديد النية والقصد في اﻷمومة والتربية، “إنما اﻷعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى” (أخرجه الشيخان)، ورب عمل صغير تكبره النية، ورب عمل عظيم تصغره النية.
2- تعظيم المرأة لهذه المسؤولية، فالأمومة علاقة روحية تقترب من العبادة المستمرة، فهي نمط حياة والتزام يستمر طوال العمر، ويتطلب إيمانا راسخاً بسمو المهمة وأهميتها.
3- الحرص على علاقة اﻷبناء بربهم ودينهم تحبيبا وتحفيزا، أول كلمة تفرحين بها تخرج من فمه الصغير “لا إله إلا الله”. وأول جملة “قل هو الله أحد”.
4- بثِّي كلمة الحق في الطفل في الوقت المناسب، بالبساطة المناسبة، من القلب للقلب.
5- بخطاب التبشير والتحفيز واستنهاض الهمم، يعلو صوتك لأبنائك وهم أجنة في البطون.
6- استثمار البيت لتنشئة سليمة وعلاقة وطيدة مع الأبناء، وجعله ملاذا آمنا لهم.
7- التربية على قيم الثقة والقوة واﻷمانة في شخصيته. ورحم الله ابن باديس القائل: “مَن علَّم ذكراً (رجلاً) فقد علَّم فرداً، ومَن علَّم أنثى (امرأة) فقد علَّم شعباً”.
انظر إلى هذه الكلمات للشيخ بديع الزمان النورسي، الذي يوصف بأنه مجدد الإسلام في بلاد الأناضول في العصر الحديث، يقول بعد أن يذكر عن والدته أنها لم تكن ترضع أولادها إلا على وضوء: “أقسم بالله إن أرسخ درس أخذتُه وكأنه يتجدد عليَّ، إنما هو تلقينات أمي رحمها الله ودروسها المعنوية، حتى استقرتْ في أعماق فطرتي، وأصبحتْ كالبذور في جسدي في غضون عمري الذي يناهز الثمانين، رغم أني قد أخذت دروسًا من ثمانين ألف شخص؛ بل أرى يقينًا أن سائر الدروس إنما تبنى على تلك البذور”.
خلاصة القول؛ إن جبهة المرأة الأمامية هي أمومتها، صناعة ولد صالح، تصلح به الأمة، وبه تحفظ مقصدا من مقاصد الشريعة وأولى الضروريات الخمس؛ وهي المحافظة على الدين. قد يبدو المطلب صعب المنال في ظل واقع مليء بضغوطات لا تترك للمرأة المجال لإعادة ترتيب أوراقها والبحث عن الغاية من وجودها وأمومتها، ولأجل ذلك نقول إن إعادة النظر في دور المرأة كأم هو المفتاح لمستقبل الأمة، وإلا لما تمكنت المرأة الفلسطينية من تحقيق ذلك، والنماذج التي نشاهدها ونسمعها خير حافز وداعم لأن يحفزن نساء الأمة في إعادة تجديد هدفهن من أمومتهن. وبالمثال يتضح المقال.
المحور الثالث: الدور الطلائعي للمرأة الفلسطينية في تربية الأجيال
إنها المرأة الفلسطينية التي يتنامى احترامنا لها مع كل ظرف قاس يمر بنا وفينا لينمو عطاؤها، وتمسي صاحبة رسالة نبوية على خطى الصحابيات؛ النموذج اﻷمثل اللواتي عشن في عصر خير الأنام.
نقرأ دور المرأة الفلسطينية في ثلاثة مشاهد:
المشهد الأول: كلمات خنساء فلسطين “أم نضال”، التي عرفت بأم الرجال وأم الشهداء وأم الفقراء، لم تترك باباً للخير وللجهاد والصبر والثبات إلا وكانت له عنواناً كبيراً. قَدمت ثلاثة من أبنائها شهداء. لنستمع لها وهي تقول: (هذه الحياة هي ألذ حياة يعيشها الإنسان المؤمن بالله عز وجل وهو يرى نفسه يقدم أغلى ما يملك من أجل ابتغاء مرضاة الله جل وعلا، فالحمد لله الذي منحني هذا الصبر العظيم).
هذه المرأة نموذج في علمها وعملها وانخراطها في بناء مجتمعها.
المشهد الثاني: عبر الشاشات أطفال فلسطين الذين يتحدثون بلباقة بالغة وإيمان راسخ وقوة بارزة، ولا يتنافى ذلك مع كونه طفلاً يحب الألعاب ويلعب بالدمى، يذاكر لامتحان الغد ليلاً مجبراً على نور الشموع، وربما مع صوت القصف، وفوق كل ذلك لديه طموح وأحلام، وأهداف يرنو إلى الوصول إليها، ذو خلق عال، واطِّلاع واسع، فائق في دراسته، ملتزم بتعاليم دينه، بارّ بوالديه.
فمَن هو صاحب الفضل في تلك التنشئة النبيلة لهؤلاء الأطفال تحت كل الظروف التي يعيشونها؟!
المشهد الثالث: نهلة صيام؛ المرابطة المقدسية الشابة، تقول وهي على أبواب بيت المقدس: “لن أكلّ أو أملّ من تواجدي ورباطي قرب باب السلسلة، بإذن الله سأقاومهم بـ”الله أكبر” فهي التي هزت عرش الطغاة، وحقاً “الله أكبر” على كل من بغى وتجبّر في المقدسيين خاصة والفلسطينيين عامة”.
وتتساءل صيام الشابة المرابطة والمبعدة قسريا عن رحاب الأقصى: “كيف لي أن أسكت وأنا أرى حرمة المسجد الأقصى تدنّس كل يوم من قبل مستوطنين متطرفين، وأنا بأمر احتلال ظالم لا يمكنني الوصول إليه والصلاة فيه؟ لكنها أيام، وبإذن الله سنعود إلى أقصانا الحبيب، ولن يثنينا عن الدفاع عنه أي بشر حتى لو كان المحتل بذاته”.
فمَن هو صاحب الفضل في بناء أجيال تتوارث شرف الدفاع عن الوطن، واستمرار القضية، والأمل واليقين في موعود الله؟
لإدراك حقيقة الدور التربوي والأخلاقي للمرأة الفلسطينية يمكن الإشارة إلى الأعداد الهائلة من الشباب الملتزم بدينه، المتعلم العالم المبدع، المنافح عن الأرض والعرض والمقدسات، المبادر للتضحية والفداء.
دورها كأم وزوجة وربة بيت وحامية للأسرة ومربية للأجيال كان القاعدة الأساسية لدعم وإسناد وإنجاز المهمات والمسؤوليات، إضافة إلى دورها في مضمار العمل الاجتماعي والوطني كمقاومة ومناضلة مارست كل أشكال العمل المقاوم.
إن الجهاد الميداني جاء متوجا للجهاد التربوي والأخلاقي الذي اضطلعت به مُنذ وطأت أقدام الاحتلال أرض فلسطين المباركة، فإعداد النشء وتربية الأجيال على أسس من الأخلاق والصلاح، وتغذيتها بالقيم، وزرع حب الوطن، وبذل المال والروح في سبيل تحريره، كلها مهام جليلة وأدوار عظيمة لم تتوان المرأة الفلسطينية في إنفاذها وتولي إنجاحها دون أي ملل أو تهاون أو تقصير.
فكل التقدير للمرأة الفلسطينية.
ختاما أقول:
نصر صلاح الدين اﻷيوبي العسكري سبقه نصر تربوي؛ من خلال الأئمة الأعلام: الإمام الغزالي، والإمام الجيلاني، ونور الدين زنكي، وغيرهم. ووراء صلاح الدين واﻷئمة اﻷعلام نساء أمهات كان لهن عند الله حاجة عشن لأجلها، وجه الله مطلبهن، وحب الله باعثهن والطريق المستقيم إلى المرضاة والقرب والجهاد والعمل والإنجاز.
والحمد لله رب العالمين.
مداخلة في الرباط الجامع، الذي نظمته عن بعد الهيئة العامة للعمل النسائي لجماعة العدل والإحسان، يوم الجمعة 9 يوليوز 2021.