دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَة وادفعوا هذا الوباء بالجود والإنفاق في سبيل الله

Cover Image for دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَة وادفعوا هذا الوباء بالجود والإنفاق في سبيل الله
نشر بتاريخ

مهلا …

مهلا ولاتتسرع في الحكم… عم أمرنا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أن نداوي مرضانا بالصدقات والإنفاق في سبيل الله، كما علمنا أن نتداوى بالأدوية المادية النافعة طلبا للبرء من السقم. يقول عليه الصلاة والسلام “تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم” (1).  لكن حين  يكون الدواء المادي عاجزا فليس لنا إلا التوجه إلى الكريم الجواد تضرعا ودعاء، وإنفاقا في سبيله  تحببا وتوسلا، رجاءَ رحمة ومغفرة وعفو منه عسى أن يصلح أحوالنا ويشفي مرضانا ويذهب عنا الوباء والبلاء.

بشارة القرآن الكريم للمتصدقين

يبشر القرآن الكريم المتصدقين المنفقين في سبيله بالفرج في الدنيا والآخرة، وبالرحمة والمغفرة، وبالسعادة بعد الغمة، وبالسعة بعد الضيق، ويبشرهم، ويبشرهم.. فالجواد الكريم يحب أهل الجود الذين يدخلون السرور إلى قلوب المحتاجين، وهل يعذب الكريم من يحب؟ بل يكشف غمته ويدفع عنه البلاء والوباء، ويحيل عيشه إلى مسرة وهناء.

اقرأ أيها المؤمن، واقرئي أيتها المؤمنة، بعقل وقلب متدبرين في البيان الرباني، فالحق تعالى يخاطبك مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: 243) مضاعفة الرزق في الدنيا والأجر والثواب في الآخرة.

ثم يبشرك سبحانه بقوله الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: 273)، لاتخف ولا تحزن في الدنيا والآخرة، فهو سبحانه سيدفع عنك كل غم وحزن، ومن الغم والحزن نزول الوباء. وغير هذا كثير من آيات الكريم الحاثة على الإنفاق في سبيله، المبشرة بالفرج وكشف الغمة ورفع البلاء والوباء.

بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتصدقين

يبشرنا نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام أن الصدقة تطفئ غضب الرب، فيرفع الكريم الغفور بها العذاب عن العباد، ويحل محله الأمن والطمأنينة والهناء، ويدفع عنا ميتة السوء، أو ليس الوباء من غضب الرب، أو ليس الهلع والخوف الذي أصاب الناس من غضب الرب. عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم “إنَّ الصدقة لتطفئُ غضبَ الربِّ وتدفع ميتةَ السُّوء” (2).

وهاك بشارة أخرى من الرسول الطبيب الحبيب عليه الصلاة والسلام؛ بشارة اليسر بعد العسر، بشارة السرور بعد الغمة، إن أنت يسرت على الناس وتجاوزت عنهم، وجُدت عليهم بما أكرمك المولى الكريم، عن عبد الله بن أبي قتادة أن أبا قتادة طلب غريمًا له فتوارى عنه ثم وجدَهُ فقال: إنِّي معسر قال: آلله؟ قال: آلله، قال: فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «مَنْ سره أن يُنجيه الله من كَربِ يوم القيامة، فلينفِّسْ عن معسر أو يضع عنه» (3). وغير هذا كثير من أحاديث المصطفى المبشرة بالفرج بعد الشدة للمتصدقين المنفقين في سبيل الجواد الكريم.

داووا مرضاكم بالصدقة

هذه بشارة عظمى من رسولنا الكريم لمن أعجزته الحيل، ولمن هُزم جيش أطبائه أمام دائه، ولمن بخل بماله أن ينفقه في وجوه الخير، ولمن خاف الأمراض والأسقام؛ تصدَّقْ بنيّة الشفاء، وتصدق من أجل أن يرفع الله الوباء عنك وعن بلدك وعن المسلمين والإنسانية جمعاء، تصدق إنها بشارة من رسول الله. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “دَاوُوا مَرضاكُمْ بِالصَّدقةِ” (4)، وفي رواية أخرى أوردها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب شعب الإيمان جاء فيها، عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةَ، وَاسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ” (5).

إنَّ للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء

ومن طيب كلام الإمام ابن القيم رحمه الله عن تأثير الصدقة في دفع الوباء والمصائب قوله في الوابل الصيب: “فإنَّ للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو من ظالم بل من كافر فإن الله تعالى يدفعُ بها عنهُ أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهلُ الأرض كلُّهم مقرُّون به لأنَّهم جرَّبوه” (6).

وقال رحمه الله تعالى: “بل ها هنا من الأدوية التي تشْفي من الأمراض ما لمْ يهتد إليها عقولُ أكابر الأطباء، ولم تصل إليها عُلومُهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه والانطراح والانكسار بين يديه والتذلَّل له الصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جرَّبْتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه، وقد جرَّبنا نحن وغيرنا من هذا أمورًا كثيرةً ورأيناها تفعلُ ما لا تفعل الأدوية الحسية” (7).

الشفاء ودفع الوباء ببركة الصدقة

من الروايات العجيبة التي ذكرها الإمام البيهقي في شعب الإيمان قصة رجلٍ هَدَّهُ المرض، وعجز عن مداواة سقمه كبار الأطباء، فلجأ إلى طبيب القلوب سيدنا عبد الله بن المبارك رحمه، والقصة مذكورة موثقة في عدد من المصادر، قال الرجل لسيدنا عبد الله بن المبارك: “يا أبا عبد الرحمن قرحة خرجت في ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجت بأنواع العلاج وسألت الأطباء فلم أنتفع به”، فقال له الولي الصالح المجاهد: “اذهب فانظر موضعًا يحتاج الناس إلى الماء، فاحفر هناك بئرًا فإني أرجو أن تنبع هناك عين ويمسك عنك الدم”، ففعل الرجل فبرأ.

ألا تصدقنا وجأرنا إلى الله بالدعاء ليرفع عنا هذا الوباء، ألا فلننظر إلى ذوي الحاجات والمعوزين بداية من ذوي الرحم إلى غير ذلك من خلق الله. ألا فلينظر أغنياؤنا إلى فقرائنا ليرفع الله هذا الوباء، ألا فلينظر من سلب حقوق الخلق وتركهم في فاقة وشدة، فليعجل بتوبة صادقة تعيد الحقوق إلى أصحابها.

في المجتمع الإسلامي تكون القاعدة هي الرحمة والمحبة والأخوة والعطاء

نختم حديثنا هذا بكلام ماتع للإمام عبد السلام ياسين رحمة الله تعالى، الجامع بين العدل والإحسان، الموقظ للوسنان السادر في غفلة عن الكريم الجواد الرحمن. يقول: “في المجتمع الإسلامي تكون القاعدة هي الرحمة والمحبة والأخوة والعطاء احتسابا لوجه الله، وتقديما مرجوَّ الفائدة، مضمونَها إن كان إخلاص وصدق، ليوم فِيه تجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً (آل عمران: 30). ثم تأتي في المرتبة الثانية فرائضُ الشرع وضوابطه وحدوده لتنظم الفَيضَ الأخوي، وليزع وازع سلطان الشرع من سلوك الذين لم يوقوا شح أنفسهم ما لم يَزَعْهُ القرآن. هذه القلوب الإنسانية عليها أقفالها، لا تفتح تلك الأقفال إلا بالإسلام ومجالسة الإخوان وتعلم الإيمان وتدبر القرآن وصحبة الله ورسوله والمؤمنين العارجة إلى مقامات الإحسان. من انفَتحت له بهداية التوبة نافذة الإسلام انحلت عقدة من عقد قلبه، ثم يُفتح له باب الإيمان فيُشرف على طمأنينة الذكر والصدق فينحل قفل الحرص على المال والرئاسة، ويَشغلُه حب الله ورسوله والشوق إلى لقائه عن توافه الدنيا وشهواتها فيزهد ويتوكل ويبذل. ثم يُفتح له أفُق الإحسان فيطلق الدنيا جميعا، يُفْرغُها من قلبه، فلا يفرح بعدها إلا بالله، ولا يعمل إلا لله، شكرا لله، وتقربا إلى الله، ويقينا أن مردَّنا إلى الله. شغلته بهجة الإحداق فيما كُشف له من عالم الملكوت عن زينة الحياة الدنيا، وهبت عليه أرواح الأشواق إلى الملك الوهاب فانفتح القفل الأخير، قفل شح النفس، فانبسطت يده بالعطاء وكان من المفلحين، نافذ التدبير، مُصيب التقدير، موفّقاً مرزوقا” (8).

رحم الله الإمام، ورفع الله عنا وعنكم وعن بلدنا الحبيب وعن المسلمين والإنسانية جمعاء هذا الوباء.


(1) صحيح الجامع، برقم 2930.

(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.

(3) رواه مسلم.

(4) صحيح الجامع، برقم: 3358.

(5)  أخرجه أبو داود في كتابه المراسيل، كتاب الطّهارة، باب في الزّكاة، رقم: 105 مرسلا، واللفظ له. ورواه الطبراني في الأوسط، رقم: 1963. والبيهقي، الزكاة، فصل فيمن آتاه الله مالا من غير مسألة، رقم: 3279. قال المنذري في الترغيب والترهيب: “رُوِي مرسلا ورُوِي متصلا والمرسل أشبه”، 1/301، رقم: 1112. وهو حديث حسن.

(6)  49/1.

(7) زاد المعاد، 4/10، ص11.

(8) عبد السلام ياسين، الإحسان، 1/385،386.