ذة. حبيبة الحمداوي في كلمة ختامية لحملة “صل رحمك”

Cover Image for ذة. حبيبة الحمداوي في كلمة ختامية لحملة “صل رحمك”
نشر بتاريخ

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أطلقت نساءُ العدل والإحسان حملة تربوية استهدفت نواة مهمة في المجتمع هي “الأسرة” وما يتبعها من روافد وروابط وعلاقات. اختارت لهذه الحملة وسم “صِل رحمك، نزورو حبابنا”. وتهدف من خلالها إلى إعادة الاعتبار للعلاقات الأسرية التي يعتريها الفتور ويهددها التفكك وقطع الصلات مع الأرحام، وذلك بتمتين روابط المحبة والود والتواصل والتراحم، والتحذير من الانغماس في عالم افتراضي يحول دون نسج علاقات أسرية متينة، بل يجعل البيوت عبارة عن غرف مغلقة وحصون مخترقة يغيب بين أفرادها التشاور والحوار والتناصح.

واختيار “صلةِ الرحم” عنوانا للحملة نابع من كونها من أحب الأعمال إلى الله تعالى التي تثمر صلة الله تعالى للواصل، وإكرامه سبحانه له من فيض عطائه الدنيوي والأخروي. قال جل جلاله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.

فصلة الرحم تثمر الأموال وتعمر الديار وتدفع ميتة السوء وتبسط الرزق وتزيد في العمر وتدخل الجنة كما ورد في أحاديث كثيرة، منها قوله عليه أزكى الصلاة والسلام: “يا أيها الناس أفشوا السَّلامَ، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحامَ، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”.

أيها الأحباب الكرام من متابعين ومشاركين، إن أصل الصلة في هديه عليه السلام، أن تصل من قطعك ولا تقتصر على من وصلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه: “يا عقبة بن عامر صل من قطعك، واعط من حرمك، واعف عمن ظلمك”، ثلاث خصال تبين السمو الأخلاقي لرسول الله عليه الصلاة والسلام؛ الصلة والعطاء والعفو في مقابل القطع والحرمان والظلم، ولعل أعظم عبرة نستلهمها من هذا الحديث الشريف، هي الارتقاء بالمعاملات من حضيض المشاحاة إلى علياء الإحسان والتكارم والعفو والصفح والمداراة وخفض الجناح.

ولعل الأمثلة العملية من الهدي النبوي في تفعيل هذه الخصال أكثر من أن تحصى وأكبر من أن تستقصى، ومن باب التمثيل لا الحصر علاقته صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان بن حرب سيد مكة وحكيمها وقائدها الكبير  الذي حارب النبي صلى الله عليه وسلم مذ أن جهر بدعوته بشراسة منقطعة النظير، محاولا اجتثاثها من الأصل وهي بعدُ في مهدها الأول، وقد تحدث عنه الإمام الطبري في تاريخ الأمم والملوك، وذكره من بين من اجتمعوا في دار الندوة يخططون لقتل رسول الله عليه الصلاة والسلام قبيل هجرته إلى المدينة المنورة، بل قاد جيوش المشركين ضد الإسلام والمسلمين في أكثر من غزوة، وكان على رأس المهددين لأمن المسلمين آنذاك، وعلى الرغم من مناصبته العداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولدعوته وتحوله من مركز القوة إلى الضعف حتى خشي على نفسه الهلاك على يد المسلمين، عفا عنه عليه أزكى الصلاة والسلام، بل أشفق عليه من الاستمرار في طريق الغي والضلالة قائلا: “ويحك يا أبا سفيان ألم يان لك أن تعلم أن لا إله إلا الله، ويحك يا أبا سفيان ألم يانِ لك أن تعلم أني رسولُ الله”.

فقال أبا سفيان قولته الشهيرة: “بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك وأعظم عفوك”؛ قولة تلخص جلائل الأعمال وعظيمها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وزيادة في البر والوصل، وتأليفا لقلبه وإكراما لعزيز قوم ما أراده نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أن يذل، حفظ له مكانته بين قومه، حيث قال عليه أزكى الصلاة والسلام: “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن”.

هذه من أروع أمثلة المروءة والشهامة والتجرد لله تعالى والحرص على الدعوة وصلة القاطع غير المكافئ.

ثم إن توجيهات الدين الحنيف لا ترسي قواعد الوصل مع ذوي الرحم الدموية والإيمانية فحسب، بل تتوسع لتشمل الناس جميعا ما لم يحاربونا في دين الله تعالى أو يناصبونا العداء. فكان التوجيهُ إلى العناية بالرحم الآدمية أو الرحم الإنسانية، من منطلق التعايش والبر والقسط. قال الله جل جلاله: لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.

ومن شأن هذا التوجيه الشريف أن يحفظ الرحم الآدمية من خلال تمتين الصلة بين العباد من بني آدم، وحفظ الكرامة الإنسانية، وتعزيز الأخوة بين بني آدم، والدفاع عن القيم الأخلاقية المشتركة المبنية على احترام وحدة الأصل ومقصد الخلق، لأن “الناس صنفان، أخ لك في الدين، ونظير لك في الخلق” كما قال الإمام علي رضي الله عنه، “فللأخوة الدينية واجباتها وحقوقها، والنظيرية في الخلق حقها أن نبر ونقسط، والمثلية البشرية لا نتركها تسحَبنا إلى أسفل”، ثم إن القسطَ يقتضي رفعَ الظلم على الإنسان وتمتيعه بحقه في معرفة الله تعالى ومعرفة مصيره بعد الموت، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، في كتاب العدل: “فالعباد رحم واحدة، وصلتها بالمشقة والإحسان خصلة إيمانية إحسانية رفيعة، وأيُّ إحسانٍ أحسنُ وأرفعُ من تنبيه الغافل وإعلام الجاهل وإنذار المستهين وتبشير السارد بما ينتظر العبادَ بعد الموت”.

أيها الحباب الكرام من متابعين ومشاركين، وقد استقر في قلوبنا وشغاف صدورنا ما تابعناه من مشاركات وازنة تذكرنا بقدسية الرحم المعلقة بعرش الرحمن والتي أنصفها الله تعالى بحكمه العادل القاضي بوصل من وصلها وقطع من قطعها، فإنا نذكر أنفسنا وإياكم بأن الحملة ليست مجرد كلمات تكتب، أو صرخات تعلو دون أن تجد صداها في واقع التنزيل وصلا وبرا. بدءا من مؤسسة الأسرة لضمان استقرارها فاستقرار الدعوة بالتبع، إلى الرحمة بخلق الله ونفعهم.

إن الحملة الأسرية، أيها الأحباب، لما بعدها، ونحن ندعو إلى عقد العزم الجازم أن نكون واصلين محسنين على الدوام، متصافين طمعا فيما عند الله، وما عند الله خير وأبقى، ونشرا لمعاني الأخوة الإنسانية، والمسلم أخو المسلم لا يُسلِمه ولا يظلمه، وتأليفا للقلوب على محبة الله تعالى ومحبة محابه عسى الله تعالى الوهاب يفتح بنا مغالق القلوب لتنشرح على دعوة الله تعالى.

شكرا لكم على إسهاماتكم التي فتلت في إنجاح حملتنا المباركة. والحمد لله رب العالمين.