سنوات مضت وأيام انقضت ودار الزمان دورته، فأقبلت الأيام المباركة تبشر بقدوم ذكريات عزيزة على قلوبنا جميعا، وبين يدي هذا القدوم تهل علينا ذكرى الإسراء والمعراج التي كانت في أواخر شهر رجب قبل الهجرة بسنة مذكرة بما تحمله من نفحات وبركات ومعاني للمسلمين، هذه الذكرى التي مازلت عبرها ومعانيها ودروسها تستنهض الهمم وتربي الأجيال وتنير الطريق إلى الخير.
كانت رحلة الإسراء من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بأرض فلسطين على ظهر البراق، حيث صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنبياء إماما، ثم عُرج به إلى السماوات العُلا صحبة جبريل عليه السلام حتى وصل إلى مكان لم يصل إليه نبي أو ملك أو إنس أو جنّ، وفي كل سماء كان يجد الترحيب والتعظيم إلى أن وصل إلى سِدْرَة المُنْتَهَى، فأوحى الله إليه ما أوحى، وفُرضت عليه الصلاة، كل ذلك في ليلة واحدة. وقد سمَّيت سورة بهذا الحدث وهي سورة الإسراء، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 1 .
من الأمور العظيمة التي يعلمنا إياها القرآن الكريم من خلال معجزة الإسراء والمعراج نقتبس عبرا وعظات نُدرجها تباعا لعل ّالله يفتح بها البصائر وينير بها الأفئدة، فمن ذلك:
1 – فضل الذكر: بدأت الآية الكريمة بتنزيه الله عز وجل عن كل عيب لا يليق به سبحانه، وإبعاد القلوب والأفكار أن تظن به نقصا، أو تنسب إليه شرا فقال سبحانه سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه. والتسبيح من الذكر الذي أمرنا الله به في كل وقت وحين فقال سبحانه وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ 2 . فالذكر أعم يشمل التسبيح والتحميد والتهليل. فكل تسبيح ذكر وليس كل ذكر تسبيح. فما أحوجنا في زمن الفتنة أن يُسرى بنا من هذه الظلمات والفتن إلى زمن نور الطاعة ولن يكون هذا الإسراء إلا بكثرة الذكر والتسبيح لله عز وجل.
2 – تعلم العبودية: العبودية هي الغاية التي خلق الله لها الخلق. قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، وبها أُرسل الرسل كما قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، وهي الصفة التي وصف الله بها ملائكته وأنبيائه ونعت بها خير خلقه وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ 3 ، وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ 4 ، وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ 5 . ومن الملائكة: بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ 6 ، واتّصف بها النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد، وكما جعل الله هذه العبودية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي لازمة للمسلم في حياته كلها في عبادته ومأكله ومشربه وسعيه وجهاده وعلمه…لأنها قضية كلية تهيمن على حياة المؤمن.
3 – صلاة الليل: الإسراء والمعراج كان ليلا في وقت الخلوة والتهجد والصلاة التي كانت مفروضة على الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً 7 ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً 8 . ودلالة هذا الأمر أن الأمة الإسلامية أمة الليل. ففي الليل يخلو المؤمن بربه، يشكو إليه أحواله ويسأله من فضله، وفيه نزل القرآن على رسول الله صلى الله عيله وسلم إنا أنزلناه في ليلة القدر 9 . وفيه اهتدى سيدنا إبراهيم بعد حيرة من أمره لمعرفة الله عز وجل فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي. فعلى الأمة أن تعود إلى صلاة الليل ودعوات السحر لكي تعرج إلى رب العالمين وتعود من جديد كما كانت خير أمة أخرجت للناس.
4 – عمارة المساجد: كانت الانطلاقة المقدسة الفريدة للإسراء والمعراج من المسجد الحرام إلى الأقصى لعظم مكانتهما عند الله عز وجل، حتى أضاف المساجد إليه إضافة تشريف وتكريم وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا 10 . فالمسجدية في الإسلام لها شأنها وقيمتها حتى جعل الله عمار المساجد من صفات المؤمنين، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ 11 . ولأهمية المساجد يكفي أن نذكر بأن أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة هو بناء المسجد ليكون مؤسسة كبيرة للصلاة والعبادة، ومقرًّا للحكم والسياسة والقضاء واستقبال الوفود، ومنطلقا لقرارات الحرب والسلم، ومكانًا لتربية الأطفال والترفيه وإعلان الأفراح، ومأوىً للفقراء وعابري السبيل، ومشفى لمداواة المرضى… فكان المسجد مدرسة لتربية وتعليم المسلمين. ونحن في حاجة إلى استثمار ما نتعلمه من معاني الحب والعطاء والتضحية والبذل والإيثار لكي نُمَسْجِدَ الأرض وميادين الحياة بآداب وأخلاق المسجد.
5 – التعلق بالمسجد الأقصى: توطدت علاقة المسلمين بالمسجد الأقصى أكثر من خلال معجزة الإسراء والمعراج، فهو قبلة الأنبياء قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو القبلة الأولى التي صلى إليها المسلمون، هذه المكانة تفرض على الأمة أن تحافظ على مقدّساتها وأن تحمي أراضيها من خلال إعداد جيل رباني يحمل هم تحرير أرض الأقصى وما حوله، والذي جعله الله عز وجل مِحْرَارًا يُقاس به إيمان الأمة عبر التاريخ، فكلما كانت الأمة مرتبطة بدينها ومقدساتها وقيمها كان المسجد الأقصى محررا، وكلما كان المسلمون يعيشون الوهن والخذلان والتبعية وقلة الإيمان سُلب منهم.
6- الدعوة للتوَحُّد: إن القارئ للتاريخ يرى بأن الله سبحانه وتعالى بارك فيمن ارتبط وعاش وعمل ودافع عن أرض المسرى، هذه البقعة الطاهرة الذي باركنا حوله، التي تمتد فتشمل ما بين العريش إلى الفرات كما جاء في الأثر. هذه البركة هي التي دفعت بصلاح الدين الأيوبي إلى توحيد مصر والشام والعراق والجزيرة تحت راية الإسلام قبل معركة حطين، التي أنزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة وفتحت أمام المسلمين أبواب فلسطين كلها وكانت بداية قوية لانهيار حكم الصليبيين في المشرق العربي.
وقد جمع الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الأنبياء والمرسلين في بيت المقدس في ليلة الإسراء ليصلي بهم إماما، كي يعلمنا أننا أمة الجماعة والوحدة.
إنها البَرَكة الربانية الممتدة إلى آخر الزمان، التي تفتح أمامنا أبواب الأمل لتوحيد الأمة وجمع شتاتها، من أجل استرجاع أراضيها وعزتها ومكانتها بين الأمم وتحقيق النصر والتمكين. وكان حقًا علينا نصر المؤمنين.
إن ذكرى الإسراء والمعراج لم تنقطع بركاتها وعبرها ودروسها بمرور الزمن أو ببعد المكان، وإنما أحداثها مازالت حاضرت بينا نُشَنف آذاننا ونملأ عيوننا وقلوبنا من إشراقات تبعث فينا معاني التربية والبناء، ونأخذ منها ما نغير به حاضرنا، ونبني به مستقبلنا، ونوحد أمتنا.