تحل اليوم الذكرى الثانية عشرة لرحيل الأستاذ محمد العلوي السليماني رحمه الله. نذكر بها من جديد حتى لا ننسى أهل الفضل والوفاء.
يرحل الرجال تباعا، وتكبر قافلة الرواحل. رجال التف حولهم الناس في الدنيا، بدوافع المحبة التي نسجت خيوط الصحبة وبنت صرح الجماعة.
ينصرم العمر سنة بعد أخرى، ويدفعنا الدهر دفعا.
يمحو الزمان من ذاكرة من يُفتن بالمكان صورة من كان معنا بالأمس من عمَّار الأرض ورحل إلى دار البقاء.
يتغير المكان ويتطور الزمان وتتبدل الأحوال؛ سنة الله في الكون. ذكَّرنا بها من أدرك حقيقتها ونبَّهنا رجال الله إلى المزالق التي يمكن أن تجرفه إلى دركها، فيصبح أسير الغفلة بكل ألوانها وأشكالها.
اليوم تطل علينا ذكرى سيدي محمد العلوي السليماني رحمه الله. عاش لله وذكَّر بالله وأرشد خلق الله إلى عدم نسيان سنة الله، واعتبار الدنيا قنطرة الآخرة، الإنسان في الدنيا وظيفته خط كتاب يقرأه يوم القيامة. قال تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى.[سورة النجم:42-55].
كان الشريف رحمه الله إذا قرأ أو سمع تلاوة هذه الآيات الكريمات، يبكي بكاء شديدا. دمعته الدافئة تحدث عند الجلساء تغيرا ينقلهم من حال الغفلة إلى أنوار الذكر. النظرة إليه تزيل غشاوة بصر العين، وتنشئ بصيرة القلب، وتهذب حركة الجوارح.
تتوالى سنوات الرحيل، ويتجند الشيطان وأزلامه لمحو أثر الصحبة والاندماج في الجماعة، ليتوهم الضعيف أنه أصبح قويا بخيله ورجله، والمفتقر أضحى غنيا بماله، والجاهل الذي تعلم حروفا أصبح عالما، ويظن العالم أنه أصبح عارفا. كلما أحس الشريف بهذا الخطر يهدد من ابتلي بعقله وأعجب بجسمه، وافتتن بماله… تلى قول الله عز وجل من سورة النور: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
كم من العلاقات اللحظية ستمحى، وكم من البنيات الوهمية ستنهار، بعد أن يطالها الجفاء والتقصير، إن وقعنا في فخاخ النسيان، وضيعنا ذاكرة الاعتراف والوفاء.
نتذكرك سيدي الشريف، ونتذكر بذكراك حالك مع القرآن وأهل القرآن، ونتعوذ من شر الوسواس الخناس، الجاثم على صدور الناس.
تذكرك سيدي يحيي فينا عمق الصحبة الصادقة التي أدركتها وحفزتنا على تذوقها بدورنا في رحاب الجماعة الصالحة.
عشت معنا في الدنيا بجسم طاهر وقلب معلق بالثريا.
تعلمنا منك دروسا لا تنسى وسمعنا منك وعظا لا يطوى؛ أن حواس الجسد يمكنها أن تلامس أعماق الصاحب، ونبضات قلوب تصدر من خلجات مصحوب، تبعث الأمل وترفع الهمم من دركات فتن الدنيا إلى درجات قمم الآخرة، وأعلاها النظر إلى وجه خالقنا الكريم.
والموعد الله.