ألقى فضيلة الأستاذ محمد عبادي، الأمين العام لجماعة العدل والإحسان، بمناسبة مرور عام على عملية طوفان الأقصى المجيدة، كلمة نوه فيها بالمقاومة الفلسطينية التي قدمت أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية والفداء والتحمل، مقدما لها الاعتذار عن التقصير في المؤازرة الواجبة، ومبشرا إياها بدنو النصر والتمكين.
واعتبر الأستاذ عبادي أن الأمل في الحكام معدوم أو شبه معدوم، والجيوش موجهة لقمع الشعوب، والشعوب مغلوبة على أمرها. وأن المعول عليه في النصرة بعد الله من انحاز إلى تيار المقاومة من علماء ودعاة ومفكرين، طالبا منهم النزول إلى الميادين لتربية الأمة وتوعيتها، وتقدم صفوفها لمقارعة الظلم وإصلاح المجتمع..
فيما يلي النص الكامل للكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
تحية إجلال وإكبار للقابضين على الجمر، الظاهرين على الحق، الذين يبيعون أنفسهم وأموالهم وأولادهم رخيصة في سبيل الله. تحية مقرونة ببالغ الاعتذار عن التقصير في المؤازرة التي تستوجبها الروابط التي تجمعنا بكم؛ وعلى رأسها رابطة الأخوة في الله.
لا يخفى علينا أحبتي ما أنتم فيه من بلاء مبين ومحنة عظيمة يشيب لها الولدان، فالعين بصيرة والقلب يعتصره الألم والدماء تغلي في العروق ولكن اليد قاصرة مكبلة، نسأل الله تعالى أن يفك عنا القيود، ويفتح لنا الحدود لنلتحم بكم، فنكون لكم عونا وسندا.
سادتي المقاومين في فلسطين ولبنان؛ لقد ضربتم أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية والفداء والتحمل والثبات، ستبقى دروسا تلقن للأجيال جيلا بعد جيل، وأصبتم العدو في مقتل، فهو اليوم ينتفض انتفاضة المذبوح، فطوفانكم سيغرق سفينته عاجلا أم عاجلا، فسنة الله ماضية في القوم الظالمين، والظلم مؤذن بالخراب كما قال ابن خلدون رحمه الله، وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، فهو يمهل سبحانه وتعالى ولا يهمل، وإذا أخذ الظالم لم يفلته.
والعدو اليوم في قمة الاستعلاء، و”لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ”، فهو علامة على قرب دنو أجله. وأنتم في قمة الاستضعاف، والاستضعاف إيذان بالنصر والتمكين، قال تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ”؛ فاستبشروا خيرا “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.
أحبتي في الله؛ إن طوفان الأقصى جيّش مشاعر حماة “إسرائيل” وحلفائها، فهبوا منذ اليوم الأول لنجدتها، وفتحوا أمامها خزائن أسلحتهم، وخزائن أموالهم، وأعانوهم بخبرائهم، وعطلوا ويعطلون قرارات الأمم المتحدة التي تدينها، معتبرين أن ما تقوم به إسرائيل من إبادة جماعية في فلسطين ولبنان هو دفاع عن النفس، وما يقوم به المجاهدون من جهاد الدفع إرهاب وعدوان. فمتى تستيقظ مشاعر المليار والنصف من المسلمين ليلبوا استغاثة أطفال غزة ولبنان ونسائها وشيوخها وهم ينادون صباح مساء: أين أنتم يا مسلمون؟ أين أنتم يا عرب؟ أين المنظمات الحقوقية؟ أين الأمم المتحدة؟ فهل صمت آذاننا عن سماع صرخاتهم وآهاتهم؟ وهل عميت أعيننا عن رؤية الأشلاء الممزقة والجثث المفحمة التي تعرضها علينا القنوات الفضائية كل يوم؟
لو قتل فرد واحد في المجتمع الغربي ظلما وعدوانا، لأقاموا الدنيا شجبا واستنكارا، أما أن يباد شعب كامل تقتيلا وتهجيرا وتجويعا وحبسا، فالمسألة فيها نظر، كما قال الشاعر:
قتل ذئب في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
قد أسمعتم يا أهلنا في فلسطين ولبنان لو ناديتم حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي، فمن يزرع روح العزة والكرامة والأنفة والشهامة في الأمة من جديد؟ من يعيد بناءها وصياغتها من جديد، لتستأنف وظيفتها في الحياة، وهي نشر ألوية الرحمة والعدل في الكرة الأرضية؟
الأمل في الحكام معدوم أو شبه معدوم، فهم يوالون الصهاينة إما سرا وإما علانية، ومن لم يفعل فهو في حذر شديد من أن تشمّ منه رائحة التعاطف مع إخوانه فيزحزح عن كرسيه، فلو كان في قلوبهم غيرة على إخوانهم، لقطعوا الصلة بإسرائيل، ولقالوا بلسان واحد لحماتها: إن نفطنا وأسواقنا وطرقنا وسلعنا محرمة عليكم، وسلعكم محرمة علينا حتى توقفوا دعمكم لعدونا. أما جيوشنا، فقد أعدت وجهزت لقمع انتفاضة الشعوب، والاستعداد للانقضاض على بعضها البعض، ليس دفاعا عن أوطان، ولكن دفاعا عمن يجثم على هذه الأوطان. أما الشعوب المغلوبة على أمرها فأغلبها لا يبالي بما يحدث، فهو يلهث وراء لقمة العيش، أو هو مخدر بالمهرجانات وحفلات الرقص، وبمتابعة المقابلات الكروية إلا من رحم الله.
ومفهوم الأمة أصبح غريبا في أوطاننا، وما أكثر الصيحات التي تنادي في بلدنا الحبيب المغرب بأن تازة قبل غزة، ألا يعلم هؤلاء أن نصرة المظلوم واجبة كائنا من كان شرعا وقانونا ومروءة؟ هبْ أن أهل فلسطين ولبنان ليسوا مسلمين ولا عربا، وأن من اعتدى عليهم مسلمون، لكان لزاما علينا أن نحارب إخواننا المسلمين حتى يكفوا عن ظلمهم، أما وإن أهل فلسطين ولبنان من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويدينون بديننا، ويدافعون عن مقدساتنا، ويحاربون عدوهم وعدونا، بل عدو الإنسانية جمعاء، فالمؤازرة أوجب، ولو اقتضى الأمر أن يبذل المسلمون كل أموالهم لتحرير فرد، فكيف بتحرير أمة من الأسر ومن المعاناة لمدة ليست سنة فحسب، وإنما هي سبعة عقود.
وهناك أصوات أخرى منكرة تلقي اللوم على المقاومين، تتهمهم بأنهم هم السبب في محنة غزة ولبنان، إذ ما كان عليهم أن يناوشوا إسرائيل وعدتهم لا تتكافأ مع عدة العدو، وهذا المنطق لو عمل به من احتلت أرضه ما تحرر بلد من البلدان، ولظل الاستكبار العالمي جاثما على الجزائر وأفغانستان وفيتنام وغيرها من البلدان، ولكنهم قدموا آلاف الضحايا والشهداء، فاندحر العدو، وانفلتوا من قبضته.
إذن، فالمعول عليه في النصرة بعد الله تعالى ليس من ذُكر من الحكام والجيوش، وإنما من انحاز إلى تيار المقاومة من علماء ودعاة ومفكرين، وجهدهم وجهادهم في إصدار الفتاوى المتتالية، والبيانات المستنهِضة. وعقد المؤتمرات والندوات لتوعية الأمة لم تعد كافية لتحريض الأمة على مقاومة العدوان، فالمطلوب منكم سادتي العلماء والدعاة النزول إلى الميادين لتربية الأمة وتوعيتها، وتقدم صفوفها لمقارعة الظلم وإصلاح المجتمع، وهذا هو البرهان العملي الذي تزكون به أقوالكم، وعندئذ فقط ستجدون وراءكم الشعوب تردد هتافاتكم وشعاراتكم.
والحذر الحذر من إثارة الخلافات المذهبية والطائفية التي تشغل الأمة عن قضيتها المصيرية، ألم ينهنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عن العصبية الجاهلية قائلا “دعوها فإنها منتنة” كما في الصحيح، فواجب الوقت يفرض علينا توحيد الصفوف وجمع الشتات ودفن الضغائن والأحقاد، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها تنادينا إلى حوار علمي هادئ، نقلص به مساحة الخلاف، ونحوله من خلاف تضاد إلى خلافة تنوع.
ولنجعل طوفان الأقصى جارفا لكل ما يحول بيننا وبين ربنا ونبينا، ولكل ما يعيق مسيرتنا الحضارية، ويؤخر تحرير قدسنا الشريف، ومن الفأل الحسن، والحبيب المصطفى كان يحب الفأل الحسن، أن يحدث هذا الطوفان في نفس الشهر الذي حرر فيه صلاح الدين القدس الشريف من أيدي الصليبيين وهو اليوم الثاني من أكتوبر سنة 1187 الموافق لـ583 هجرية بعد 90 سنة من استيلاء الصليبيين عليه.
اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بذنوب غيرنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم إننا مغلوبون فانتصر. اللهم اكفنا شر الصهاينة بما شئت وكيف شئت، يا أرحم الراحمين يا رب العالمين. والحمد لله رب العالمين.