تمهيد
ما كان أحد يتوقع يوما أن يكون الرباط التربوي الذي عشناه نوعيّا بهذا الشكل. نوعياّ في زمانه؛ إذ تزامن مع وقت الحَجْر الصحي في البيوت، ونوعيّا في مكانه؛ إذ رابط كل واحد في بيته وفي كل قرية ومدينة، ونوعيّا في برنامجه؛ إذ كان برنامجا متحفا بمواد مباركة موفقة، ونوعيّا من حيث المشاركون؛ إذ شارك فيه إخوة وأخوات بأسرهم صغارا وكبارا… كل ذلك يشمل مننا وحِكما إذا ما علمنا منها شيئا غابت عنا أشياء. وحسبي أن أسوق في هذا المقام بعضا منها فيما يلي:
1. الرباط رجع
· رجع إلى النفس: مادة (رجع) تدل على رد وتكرار ومنها الرجوع (العود) 1إلى ما كان في البدء. الرباط رجوع إلى النفس ومحاسبتها على تقصيرها مع ربها، والتفتيش في دواخلها لتصطلح مع بارئها وتشتغل بخالقها، لكن مع طول الوقت انفرط هذا المعنى بمشاغل الدنيا وغوايتها وشهواتها؛ فيأتي هذا الرباط النوعي بمثابة فرصة، لنرجع إلى أنفسنا ولأسرنا التي اشتاقت إلينا واشتقنا إليها، بعد أن انتزعتها منّا وسائل الإعلام والصحون الهوائية الآكلة للوقت والمال والأهل والولد.
· رجع بعد طلاق: طُلّقت جلّ البيوت وهُجِرت فكادت أن تصبح كالمعلقة، وأوشكت أن تفقد وظيفتها ومكانتها، ها نحن نرجع إلى ديارنا لنتخذها مساجد وننظفها ونطهّرها ونطيبها ونصلح صنعتها؛ حتى نقيم الصلاة فيها فرضا ونفلا. عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: “أمرنا رسول الله أن نتخذ المساجد في ديارنا، وأمرنا أن ننظفها” 2.
· رجع بسلاسل الامتحان: شاءت أقدار الحق تعالى أن ترجعنا إلى بيوتنا مكرهين مضطرين مقيدين بسلاسل الامتحان خوفا من عدوى الوباء بعد أن كنا من قبلُ في إقبال عليه طوعا وإحسانا. “من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان، قيد إليه بسلاسل الامتحان” 3.
· رجع ومصير: نأخذ العبرة ونتذكر أن المصير إلى الله و”إن إلى ربك الرجعى” 4، وأن نتعظ من هذا المخلوق الضعيف الذي أرجع جل الناس إلى البيوت: الغني والفقير، القوي والضعيف، الرجل والمرأة، العالم والجاهل… أليس هذا كاف بأن نخشى الله ونتقيه. قال تعالى: “واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله” 5، ومن التقوى الاستعداد ليوم الميعاد بالمسابقة إلى الخيرات. قال تعالى: “فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم” 6.
2. الرباط رفع
· رفع زلفى قربة: ليس من رجع إلى الله تعالى وأقبل عليه، كمن أعرض عنه وأدبر. لا يستويان مثلا. إنما يسوق الله مثل ذلك الرباط، ليُهيئ للمقبلين روضة ومرتعا، وقربة بذكر الله والصلاة والموعظة الحسنة، ولزوم كتاب الله تلاوة واستماعا، وحفظا وتدبرا وتهجدا به وقياما بين يديه. قال الله تعالى: “إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه” 7.
· رفع للمقام: ما الرباط إلا ارتقاء بالعبد في سلم العبودية ومدارج الإحسان، وفرصة لرفع مقام رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله مستغرقين في الذكر والتلاوة. ورجال لا يثنيهم العجز والخوف من القيام بواجب التطبيب والتمريض، ساهرين على علاج المرضى المصابين. قال الله تعالى “نرفع درجات من نشاء” 8 فذاك مقام لا يناله أيا كان فهو توفيق واجتباء واصطفاء به.
و”إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك فانظر فيما أقامك” 9.
· رفع للموت وجلب للحياة: أنعم به من شرف لهذه البيوت التي تنوب عن المساجد والجوامع. فهي تتراءى كمنارات يعرفها أهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض. فهي بهذا الرباط أصبح لها معنى، وعادت لها الحياة بعد أن قضى عليها الموت. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه: مثل الحي والميت” 10. وما حياة البيوت إلا حين يرفع فيها ذكر الحي سبحانه. “في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه” 11.
3. الرباط دفع
· دفع لفعل الخيرات: إذا أراد الله بعبد خيرا، هيأ له فرصة رباط ليدفعه بسرعة إليه، افتقارا وانكسارا وتذللا واستجابة، بحيث لم يعد مبرر لتأخير الصلوات عن وقتها، وقيام الليل وصيام النهار لمن استطاع، والعمل بخصال الخير وشعبها. كما الرباط يدفع عنّا البخل والتراخي والتهاون وسوء الأخلاق.
· دفع بإحسان: قال الله تعالى: “ادفع بالتي هي أحسن “ 12 والرباط في البيت يدرب على اكتساب الدفع بإحسان لتحقيق الاستقرار الأسري، ومدّ جسور الألفة والحوار، ونبذ العادات السيئة مع التحلي بالصبر والمصابرة. قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “الاستقرار في البيت، وحسن التعامل فيه، من أهم ما ينبغي أن يميز المؤمنين، وإنه لجهاد يقتضي رحمة وحكمة، لاسيما في فترة الانتقال من مجتمع الفتنة إلى المجتمع الإسلامي. للناس عادات ومشارب، والبيت مغزو بأدوات الإعلام الفتنوية. ولأهل كل بيت فتن. فعلى المؤمن والمؤمنة ألا يعنفا على أهل بيتهما بما ينفر. والجهاد في جهاد دعوة وصبر ومصابر” 13.
· دفع البلاء بالدعاء: الرباط روحه ولبّه تضرع وتوجه إلى الله بالدعاء حالا ومقالا، والدعاء من وسائل رفع البلاء. كما ورد في الحديث “لا يرد القضاء إلا الدعاء” 14، ومن صيغ الدعاء التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم لدفع البلاء. “اللهم إني أعوذ بك من جَهد البلاء ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء” 15.
- خاتمة
الرباط سنة نبوية فيه رجع ورجوع إلى الله تعالى، واقتضت مشيئته أن يرجعه إلينا على يد محسنين في هذا الزمن وبهذا الشكل حتى يذكرنا بطلائع بشارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي تَعِد بأن أمر هذا الدّين سيعود كما بدأ؛ ويعمّ خيره أمتنا والإنسانية جمعاء “كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا” 16.
الرباط رفع للهمم والعزائم لتنجمع القلوب بعد شتاتها ترقى في مدارج العبودية، وما عجز بدن عمّا قدرت عليه الهمة والنية. وإذا ما ارتفعت الهمة أُعطي المرء كل خير. وصدق من قال “على قدر همتك تعطى” 17.
الرباط دفع للبلاء، ولا دفع للبلاء إلا بالتضرع والدعاء مع اتخاذ الأسباب الممكنة والمتاحة. فاللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء وسوء القضاء.
نخلص إلى أن ذلك الرباط النوعي اشتمل على نعم وحكم ظاهرة وباطنة، ما ظننا أنها ستعمّ أسرنا وعائلتنا وعشائرنا ومدننا وقُرانا… ذلك أن التدبير البشري تدبير قاصر وعاجز، وأن التدبير الإلهي تدبير عزيز حكيم، يؤشر ويبشر بأن هذا الأمر سيبلغ ما بلغ الليل والنهار. قال صلى الله عليه وسلم:” ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدّين بعز عزيز أو بذلّ ذليل عزاً يعز به الإسلام” 18.
[2] أخرجه أحمد.
[3] ابن عطاء الله السكندري.
[4] سورة العلق، الآية 8.
[5] سورة البقرة، الاية 281.
[6] سورة المائدة، الآية8.
[7] سورة فاطر الآية10.
[8] سورة يوسف، الآية 76.
[9] الإمام الشافعي.
[10] أخرجه البخاري ومسلم.
[11] سورة النور، الآية36.
[12] سورة فصلت، الآية34.
[13] الإمام عبد اللام ياسين، المنهاج النبوي ص139/ 140.
[14] رواه الترمذي.
[15] متفق عليه.
[16] سورة الأنبياء، الآية 104.
[17] سيدي أحمد الرفاعي.
[18] رواه الإمام أحمد.