ترددت في البداية أن أكتب عن الرجل مخافة أن لا أوفيه حقه وحقيقته، فقد كان رحمه الله قامة من القامات التربوية والتعليمية والدعوية وحيثية اجتماعية معروفة ومرموقة ولا أزكي على الله أحدا يصعب أن تحيط بشخصية من هذا الحجم من كل جوانبها، لكن سأحاول أن أعصف بذاكرتي لعلها تجود ولو بنتف بسيطة تبرز قيمة الرجل رحمه الله تعالى، ولكم أن تسألوا عنه رفاق دربه من رجال وأطر وشيوخ دعوة العدل والإحسان خاصة بحي لازاري بمدينة وجدة الذين صاحبوه ويعرفون عنه الشيء الكثير مني، كأمثال “الحاج عبد الرحمان لخضير” و”الحاج المامون حدي” و”الحاج عبد الكريم خثيري” و”الحاج عبد الله لبيض” و”الحاج مصطفى كوال” و”الحاج محمد لخضير” و”الحاج الطيب الزروقي” و”الحاج عبد السلام ماحي” و”الحاج الشامخة” و”با جيلالي” و”ادريس ايت أحمد” واللائحة تطول، ومنهم من قضى نحبه كأمثال “با حميدة بلحبيب” و”الحاج محمد لعريف” بحي الجوهرة اللذين توفيا قبله وحضر جنازتهما والمرض باد عليه رحمهم الله جميعا.
ولد المرحوم “الحاج محمد العامري” سنة 1950 بقرية “بني بوحمدون” المجاهدة جماعة تويسيت ضواحي مدينة وجدة، بدأ يحفظ القرآن الكريم منذ طفولته وتميز بسرعة باهرة في الحفظ بين أقرانه، تزوج بامرأة مؤمنة صالحة رزق منها بثلاثة أبناء ذكور حفظهم الله وبارك فيهم. شغل المرحوم في بداية مشواره المهني معلما في بداية السبعينيات بميدار وجرادة متحملا أعباء إعالة عائلته، ثم أستاذا للتعليم الإعدادي ببوعرفة سنة1981، وبعد اجتيازه مباراة سلك الأساتذة الخاص بنجاح انتقل إلى فرنسا حيث درس سنتين ليعين، بعد عودته، سنة 1985 أستاذا للتعليم الثانوي للغة الفرنسية بثانوية زينب النفزاوية بوجدة إلى أن أحيل في إطار المغادرة الطوعية على التقاعد المهني سنة 2005، لكنه لم يعرف في يوم من الأيام التقاعد أو التقاعس الدعوي والمجتمعي خدمة لدينه ووطنه وأمته بكل ما ملك لذلك سبيلا حتى أقعده عذر المرض وغيبه لسنوات رحمه الله.
كان المرحوم قيد حياته جميل المنظر والمخبر دائم الابتسامة والبشر، منذ أن عرفته وأنا طالب بالجامعة وهو محتضن للدعوة بمنزله الفسيح الجميل بحي لحبوس لازاري، وقد زينه بما يليق بضيوفه وإخوانه خدمة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شرف هذا البيت بزيارة مباركة للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمة الله عليه سنة 2000، غير آبه بمضايقات رجال السلطة وتهديداتهم. وهكذا خصص طابقا من منزله لاستقبال ضيوفه الذين كانوا يجتمعون في الله وعلى الله لعقد مجالس النصيحة والرباطات والتعليم والتواصل والاشعاع بعدما منعوا ظلما وتعسفا من فضاءات المساجد والمراكز الثقافية ودور الشباب ومختلف الفضاءات العمومية.
اشتغل الرجل إلى جانب إخوانه وأخواته في الجماعة بعدة مؤسسات ولجان خاصة في مجال الدعوة والتربية والتعليم والتواصل، كما اشتغل كذلك بموقع الجماعة الإلكتروني قسم اللغة الفرنسية وعكف على الترجمة والتحرير والكتابة بها ما شاء الله.
وقد كان رحمه الله فاعلا وحاضرا في قلب المجتمع وقضاياه جمعويا وثقافيا ونقابيا، كما مارس الخطابة والوعظ بعدة مساجد قبل أن يتم توقيفه من قبل السلطات بسبب انتمائه الدعوي والسياسي، ومهتما بقضايا أمته خاصة قضية فلسطين فكان يحرص كل الحرص على المشاركة في المسيرات والتظاهرات الوطنية والمحلية، بل وينظم الوقفات المسجدية بمختلف مساجد حي لازاري (مسجد الحسنى (كان عضو لجنته)، مسجد الإمام الغزالي، مسجد الرياض…) وكلها شاهدة على مواقف الرجل وكلماته القوية الصادحة بالحق والصدق.
شخصيا والله على ما أقول شهيد لم أرى الرجل قط يستمع أو يتكلم في مجلس علم وذكر ومذاكرة إلا وقد غلبته عبراته حتى يتوقف عن الكلام، و مازلت أتذكر موقفا له خلال إحدى زيارات الأستاذ فتح الله أرسلان عضو مجلس الإرشاد عندما استقبله في بيته بحفاوة وكرم لكن ما إن جلسنا حتى أجهش الرجل بالبكاء وسط استغراب الحضور، وبعد لحظات من بكائه رحمه الله قال: “بكيت لأن المكان الذي يجلس فيه الآن سي فتح الله هو نفس المكان الذي جلس فيه الإمام عبد السلام ياسين عندما دخل هذا البيت سنة 2000″، وعقب الأستاذ فتح الله على ذلك قائلا: “سيأتي يوم من الأيام وستقولون عني بعد وفاتي هنا كان جالسا فلان”، فبكى الرجل من جديد معتبرا من هذا الموقف المذكر بالموت والدار الآخرة والاستعداد الدائم للقاء الله تعالى.
كان منزله رحمه الله محضنا ومدرسة قرآنية تحتضن الشباب خاصة في الرباطات الأربعينية لحفظ القرآن الكريم وتلقي علومه والتي كانت تنظمها الجماعة في كل سنة خلال فصل الصيف، فتجده عند حلول هذا الموسم فرحا مسرورا باستقبال ضيوف هذه المحطة القرآنية الإيمانية وإيوائهم دون تضايق أو ضجر هو وزوجه وأبناؤه، ويقول هذا فضل الله وبيته والحمد لله أن وفقني لفتحه عسى أن ننال حظا ولو بسيطا مما نال الصحابي الجليل سيدنا الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه الذي كان بيته أول بيت يأوي دعوة رسول الله في مكة بداية البعثة، كنت أتعجب من سعة صدر الرجل وكرمه وبذله وصبره، فقد يستضيفك شخص ليلة أو ليلتين، لكن أن يستضيفك أربعين يوما بليلها ونهارها ولا تلمس منه تأففا أو استياء و لو بسيطا فهذا لعمري مما يحسب للرجل وأسرته المباركة تقبل الله منها، حتى أنه كان عند ختم هذه المحطة يودعنا بالبكاء والحسرة لأنه كان لا يتحمل خلو منزله من تلاوة القرآن وذكر الله والصلاة فيه ولو للحظة.
شاءت أقدار الله تعالى أن يترجل هذا الفارس ويلتحق بالرفيق الأعلى بعد سنوات من المرض في زمن الحجر الصحي بسبب تفشي الوباء، وقد توقفت مجالس الذكر والإيمان التي كان يحتضنها في فضائه الجدراني واستبدلت بفضاءات افتراضية تعقد فيها هذه الموائد الربانية عن بعد، فحتى لو أراد الواحد منا فتح منزله الجدراني لهذه المجالس لما استطاع ذلك لأن باب الخير أغلق وقد غنم من غنم، سبحان الله عبرة وأي عبرة، وكأن لسان القدر يقول للمرحوم في هذه الظروف “ربح البيع أيها العامري الأرقمي” وبدارجتنا العامية “مول لمليح باع وراح”.