حينما قرع قلوبنا خبرُ اغتيال البطل المجاهد إسماعيل هنية حاولتُ جاهدا أن أبكي لعلّي أخفّف عن حمل ذاك الألم الفظيع الذي أحسست به، لكن والله ما سالت دمعتي ولا أطلّت من تحت الأجفان. وحدث الشيء نفسه مع السيد حسن نصر الله فخر لبنان، واليوم مرّة أخرى يتكرّر الأمر نفسه وأنا أسمع خبر رحيل يحيى السّنوار كابوس الصهاينة والأمريكان.
اعتصرت عيناي علّي أحظى بدمعة تشهد لي عند ربّ العالمين أني كنت لهؤلاء المجاهدين من المحبّين، والمرء مع من أحبّ كما قال الصادق الأمين. حاولت أن أبكي، فلمّا لم أفلح في البكاء حاولت التباكي، لكن دون جدوى. وبينما كنت أستجدي المقل وأستدرّ ماء العين كمدا على رجال قلّ نظيرهم في دنيا الجبن والعجز والشلل، وعزّ مثيلهم في أمّة تداعى عليها الأكلة من كلّ الملل لمّا أصابها الوهن والخور والعطل، سمعت هاتفا من داخلي يقول: ابكهم أو لا تبكهم فقد سجلت أسماؤهم على صفحات التاريخ بماء الذهب… ابكهم أو لا تبكهم فهؤلاء قد أعادوا كتابة التاريخ فلهم الخلد والمجد ورفيع الرتب… ابكهم أو لا تبكهم فهؤلاء ليسوا في الأموات بل في الأحياء فرحين بما أعطاهم المولى الكريم وبما وهب… يا هذا هؤلاء لا يُبكى عليهم… إنّما يُسار على دربهم، ويُحتذى بهم، والمرء -يا هذا- مع من أحب… ولكلّ قلب ما اكتسب.
وتذكّرت حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عن وجْهِهِ أَبْكِي، ويَنْهَوْنِي عنْه، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَنْهانِي، فَجَعَلَتْ عَمَّتي فاطِمةُ تَبْكِي، فَقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ ما زَالَتِ المَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بأَجْنِحَتِهَا حتَّى رَفَعْتُموهُ» 1.
نعم؛ قتل عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه في غزوة أحد، ومثّل المشركون بجثّته، فلما أتوا به شهيدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، جاء ابنه جابر رضي الله عنه يريد أن يكشف الغطاء عن وجه أبيه، لكنّ قومه منعوه، وكلّما حاول نهوه، ورسول الله صلى الله عليه و سلّم لا ينهاه، حتى أمر عليه الصلاة والسلام بحمل الشهيد ليدفنوه، هنا صاحت أخته فاطمة بنت عمرو بن حرام باكية فقال لها الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلّم مهدّئا من روعها، مخفّفا من ألمها وألم غيرها على فراق سيد من سادات الأنصار رضي الله عنهم: «فَلِمَ تَبْكِي؟ أَوْ لا تَبْكِي، فَما زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأَجْنِحَتِهَا حتَّى رُفِعَ» 2.
وكأنما يقول لها مثل هذا لا يُبكى عليه، مثل هذا يفرح به، وحَسْبُكِ عَزاءً أنَّ الملائِكة ما زالَت تُظِلُّه بأجنِحتِها تَكريمًا له حتَّى رَفَعَه الناسُ إلى قَبْرِه. وحسبك من السلوى أنّ الملائكة كانت مُجتمِعةً عليه، مُتزاحِمةً على المُبادَرةِ للصُعودِ برُوحِه الطاهرة حتَّى حمله النّاس إلى مرقده.
إنّها الشهادة يا صاح!
إنّها شهادة الشجعان المجاهدين، لا موت الجبناء المتخاذلين!
إنّها جثامين الأطهار الصادقين، لا جيف الخونة المنافقين.
إنّها أمانيُّ نيلت وأحلام تحقّقت وأرواح في سبيل الله زهقت، ولطالما سمعناهم جميعا يردّدون نفس النشيد الراقي: والله لأن نموت شهداء في الميدان، أحبّ إلينا من أن نموت بالكورونا أو ضغط الدّم أو بالسرطان… بلغنا السّتّين وحان الموعد فلترق الروح شهيدة في سبيل الله وليعمّر الطاعم الكاسي.
إنها الشهادة، واللهُ لا يهبها لأيّ كان، فليخسأ العدو وأبواقه، فهذه الأمّة ولاّدة، تعشق الشهادة، يموت منها قائد فيحيا بموته قادة. إنّها أمة القرآن لا ينقطع نسلها، ولا تخور أُسْدها، ولا ينقطع من السماء مددها.
في غزوة أحد اغتال الأعداء سيدنا حمزة رضي الله عنه وكان قائدا عظيما من قادة المسلمين، وآلم ذلك مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لكن هل توقف المسلمون وتركوا رسالتهم؟
في غزوة مؤتة استشهد ثلاثة من أبرز قادة الجيش الإسلامي. تولوا القيادة واحدا بعد الآخر كما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ بن حارثة رضي الله عنه فَاستشهد، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ بن أبي طالب رضي الله عنه فَاستشهد، ثُمَّ أَخَذَهَا عبدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ رضي الله عنه فَاستشهد، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ رضي الله عنه عن غيرِ إمْرَةٍ فَفُتِحَ له، واستطاع أن ينسحب بالجيش الإسلامي انسحابا تكتيكيا ناجحا بأقلّ الخسائر.
كانت هذه أول غزوة للمسلمين خارج الجزيرة العربية، فقد لاقوا الجيش الروماني وحلفاءه من الغساسنة في بلدة مؤتة في محافظة الكرك في الأردن في جمادى الأول من العام الثامن للهجرة، الموافق لشهر غشت سنة 629 ميلادية.
كان الجيش الإسلامي يتكوّن من ثلاثة آلاف في حين تجاوز جيش العدو المائتي ألف، ومع ذلك استطاع المسلمون على قلّتهم أن يثبتوا ستّة أيام دون هزيمة.
وتم الهجوم الأول على البيزنطيين بعد صلاة الفجر من اليوم الأول، وكان هجوما قويا مفاجئا لم يتوقعه العدو من جيش صغير فأثخنوهم. وفي اليوم الثاني، بادر المسلمون أيضا بالهجوم وكان ذلك اليوم كذلك لصالحهم، وقُتل كثير من الروم وحلفائهم. أما في اليوم الثالث فقد بادر الروم بالهجوم وكان أصعب الأيام وفيه قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم أجمعين. واختار المسلمون خالداً بن الوليد رضي الله عنه قائدا لهم، فقام بانسحاب تكتيكي مدروس جنّب المسلمين الهزيمة وخلّف في صفوف العدو رهبة وهلعا.
أعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلّم بما حدث فنعى لأصحابه في المدينة استشهاد القادة الثلاثة وقال: “ما يَسُرُّنَا أنَّهُمْ عِنْدَنَا -قالَ أَيُّوبُ أَوْ قالَ: ما يَسُرُّهُمْ أنَّهُمْ عِنْدَنَا- وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ” 3.
واستشهد بعد ذلك أبطال كثر، واستشهد القائد الأعظم صلى الله عليه وسلّم أيضا بسمّ اليهودية الحاقدة بعد مضي ثلاث سنين على أكله من شاتها المصلية 4.
فهل توقف المسلمون عن دعوتهم؟ هل تركوا وظيفتهم وأهملوا واجبهم؟
أما تذكرون قولة الصدّيق رضي الله عنه بعد استشهاد سيد الأولين والآخرين: “أمَّا بَعْدُ فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قالَ اللَّهُ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبٗا مُّؤَجَّلٗاۗ وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡأٓخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِي ٱلشَّٰكِرِينَ (145) [سورة آل عمران]“ 5.
نعم قد يضعف المسلمون في وقت ما لكنّهم أبدا لا يُستأصلون، قد ينهزمون يوما لكنّهم دوما يعودون.
استشهد قبل السّنوار وهنيّة سلسلة نورانية من المجاهدين ومن القادة المباركين وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين الذي علّمهم أن الطريق وعرة، وأنّ الثمن غال، وأن العقبة كؤود، وأنّ الموعد الله.
فابكهم يا أخي أو لا تبكهم فهؤلاء ممّن صدق فيهم قوله تعالى: مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا (23) لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا (24) وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا (25) وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا (26) وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا (27) سورة الأحزاب.
[2] أخرجه البخاري (1293) واللفظ له.
[3] أخرجه البخاري (2798) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ في مَرَضِهِ الذي ماتَ فِيهِ: يا عائِشَةُ، ما أزالُ أجِدُ ألَمَ الطَّعامِ الذي أكَلْتُ بخَيْبَرَ، فَهذا أوانُ وجَدْتُ انْقِطاعَ أبْهَرِي مِن ذلكَ السُّمِّ). رواه البخاري (4428).
[5] رواه البخاري عن أمنا عائشة رضي الله عنها (4452).