العنف هو كل استعمال للقوة في غير محلّها، وهو ضد الرفق كما جاء في لسان العرب، ومرادف للشدّة والقسوة [1]، فكلّ قوة زادت أو مالت عن حدودها تعتبر عنفا. وقد ارتبط هذا المفهوم بالحركة النسائية في مسارها النضالي وطموحاتها التغييرية لواقع المرأة مدعّمة بتوصيات ومواثيق وإعلانات الأمم المتحدة لدقّ ناقوس الخطر بخصوص فيض العنف الأسري في المجال العالمي، ففي تقرير لمنظمة العفو الدولية حول حقوق الإنسان في العالم منذ عشرين سنة (أمنستي إنترناشيونال مارس 2001)؛ هناك امرأة تضرب داخل منزل الأسرة كل خمس عشرة ثانية، وهناك زوجة من كل خمس زوجات يضربن بانتظام بواسطة أزواجهن [2]، كما تشير الأدبيات أن حالات العنف المتنامية الكثير منها في الدول الغربية، والقليل من الحالات سجّلت بالعالم العربي [3].
لكن المثير فيما يخص انتشار ظاهرة العنف ضد النساء في العالم العربي ارتباطها غالبا بمفاهيم الرجولة، وفي بعض الأحيان يتطور المفهوم ليصبح مرادفا لها، فمن خلال ممارسة العنف بأشكاله المختلفة يؤكد الرجل – الذكر، إذ الرجولة صفة لا ترتبط بجنس – من حيث لا يدري غالبا – وهو مصاب باضطراب الشخصية النرجسية التي تختفي وراء الأنا السرّيّة غير المعلنة، أنه قويّ باستضعافه للمرأة، ذكي بتجهيلها أو اتهامها بالجهل والنقص العقلي، ناضج باستعراض مواقف الضعف السلوكي لدى المرأة وتسليط الضوء عليها وتأويلها بما يخدم تلك النزعة
ويتم التأصيل لهذه الثقافة مجتمعيا ودينيا أحيانا؛ حتى تسود قناعات – لدى النساء أيضا – أن الرجل لا يهان لكن المرأة تتحمّل الإهانة، والرجل لا يعاب لكن المرأة هناك كثير ما يعيبها، والرجل لا يلام على أخطاء كثر والمرأة معدن الخطأ وعليها يقع كل اللوم والعذل.
مما لا شك فيه أن هناك عوامل أخرى للعنف ضد النساء؛ كالشعور بالإحباط وضعف العلاقات الشخصية والغيرة المفرطة وإدمان المخدرات [4] وترتبط كلها بمحاولات يائسة لإثبات الذات من خلال العنف، ولا يمكن تجاهل العوامل الموضوعية المرتبطة بسيادة هذه الثقافة في الإعلام والشارع… والعنف يواجه بعنف أشدّ قسوة وشراسة، وبهذا تعيش الأسر والمجتمعات في دوّامة من القلق والترقّب والحذر [5].
فما السبيل لتصحيح هذا المسار وتعديله؟
إن العنف الممارس ضد المرأة بأصنافه وأشكاله، واستعدائها من قبل الرجل بغض النظر عن دوافعه وأبعاده التاريخية والثقافية والنفسية، جعل المرأة – حين سنحت لها الفرصة – تستقوي عليه بالمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، المحلية منها والعالميّة، ليس لردّ مظالمها العديدة فحسب بل لقلب المعادلة وإهانة الرجل وتعنيفه نفسيا وماديا وحتى جسديا … عنف متبادل وصراع مقيت.
بلاء الكوفيد 19 وما تبعه من حجر صحّي كان تجربة قاسية لكل الشعوب وخاصة الضعيفة منها اقتصاديا، لكنها كانت أكثر قساوة في البيوت الهشّة عاطفيا، حيث تزايد منسوب العنف بأصنافه المختلفة الجسدي والعاطفي والاقتصادي.. [6] لمّا وجد الرجل والمرأة نفسيهما وجها لوجه مع تاريخ من الاستعداءات وضغوط اقتصادية وعدم استعداد للتعاون والتصبّر لمواجهة آثار الجائحة، فدمّرت أسر بسبب العنف الذكوري وتزايدت معدّلات الطلاق لأن المرأة لم يكن لديها ما يكفي من التحمّل للصبر أو أنها لم تكن ترى ما يستحقّ الصبر معه أو عليه.
لم تكن الجائحة هي السبب الأساسي، وإنما طبيعة العلاقات الكسيحة داخل كثير من الأسر، فقد عاش أسلافنا أزمات اقتصادية صعبة للغاية منذ بداية القرن السابق؛ فتسمع أن الزوجين كانا يدا واحدة تحمّلا للمسؤولية صبرا وتصبّرا حتى تنقضي الأزمة، بل إن الضائقة تكون سببا لصقل معدنيهما فيزداد منسوب الودّ بينهما، ما يقوّيهما لمواجهة صعاب الحياة القادمة.
أحرى بمجتمعاتنا لو تعود لأصولها أن تفهم الحديث النبوي الشريف “لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم” [7] أن اللؤم مرض يحتاج لعلاج تربوي فردي وجماعي، وأن الخيرية والرجولة تكون بإكرام المرأة تقديرا لضعفها وقوّتها، فليست كلّها ضعف ولا الرجل كلّه قوة، والقوة تختلف عن العنف لأنها منضبطة بالعقل والشرع، وترتبط بكل النواحي النفسية والسلوكية قبل الجسدية.
لو نعود لأصولنا ونتمكّن من التخلّص من رواسب الظلم التاريخي للمرأة من أجل بناء جديد؛ لعلمت المرأة أن ضعفها كما قوّتها ميزتان خصّهما الله بهما كلّ في موطنه، فلا تحتاج المرأة أن تسترجل لتكون قويّة، وإنما الحاجة للقوة النفسية الإيمانية إذ بها تعي كينونتها وحقوقها وواجباتها وحاجياتها. القوة الإيمانية لو تتوازى مع قوة فكرية واقتصادية وفاعلية مجتمعية وذكاء عاطفي وسلوكي لمواجهة ثقافة العنف البئيسة دون إفراط ولا تفريط، وأن تضع المرأة نصب عينيها الحديث الشريف “ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه” [8].
فيا حبذا ميثاق جديد بين قطبي الإنسانية يبنى على الرحمة والإحسان قبل القوانين الضابطة، وتصالحا يكسر صراعا مستديما الكلّ فيه خاسر، نساء ورجالا، أجيالا وأجيالا، ذلك أن الجوّ القهري الذي تعيش فيه بعض الأسر ينتج عنه تهديدات عاطفية خطيرة للأطفال داخل الأسرة تستمرّ لفترة طويلة، لذلك فقلب المشكلة سيظل ليس في الأذى البدني وغير البدني الذي يصيب النساء فحسب، بقدر ما هو في الاضطراب العاطفي الذي يصيب الأطفال شباب المستقبل؛ وعود على بدء.
[1] ابن منظور أبو الفضل جمال الدين: لسان العرب، حرف الفاء. دار الكتب العلمية. بيروت، لبنان. الطبعة الأولى 1992، ص 257-258.
[2] الفريق عبد المحمود عباس أبو شامة واللواء البشري محمد الأمين: العنف الأسري في ظل العولمة. جامعة نايف للعلوم الأمنية. الرياض. 2005. ص 59.
[3] نفسه: ص 55.
[4] الغرباوي ماجد: تحديات العنف. العارف للمطبوعات. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. أبريل 2009. ص 8.
[5] نفسه.
[6] http//www.help-curriculum.com الأكاديمية العربية في الدانمارك.
[7] https://islamqa.info رواه ابن عساكر في “تاريخ دمشق”.
[8] الراوي: عائشة وأنس بن مالك | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم: 5654 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
المراجع:
– ابن منظور أبو الفضل جمال الدين: لسان العرب. دار الكتب العلمية. بيروت، لبنان. الطبعة الأولى 1992.
– الغرباوي ماجد: تحديات العنف. العارف للمطبوعات. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. أبريل 2009.
– الفريق عباس أبو شامة عبد المحمود واللواء محمد الأمين البشري: العنف الأسري في ظل العولمة. جامعة نايف للعلوم الأمنية. الرياض. 2005.
– http//www.help-curriculum.com الأكاديمية العربية في الدانمارك.
– https://islamqa.info