هب علينا نسيم غزوة بدر وداعب ذاكرة التاريخ آخذا إيانا في رحلة عبر الزمن إلى تلك الأيام المشرقة للأمة الإسلامية. نستحضر أحداث وروائع غزوة بدر، معركة أسست لبداية انتصار الحق على الباطل وعلو شأن الإسلام والمسلمين. تلتها فتوحات عمت بقاع المعمور، وسيادة للغة العربية، وتقدم في العلوم، وبسط للنفوذ.
وقد يسألنا سائل عن شروط وأسباب هذه العزة والتمكين. فنقول: ارتباط قوي بالله، وتشبث بالهوية العربية، واعتزاز بدين الإسلام ناهيك عن إعداد القوة والعتاد. أما فيما يخص صفات حملة هذه الرسالة بدءا من عهد النبوة ومرورا بالخلافة الراشدة وتواترا عبر الزمان، فأولها أنهم كانوا رهبانا بالليل، فرسانا بالنهار، شعارهم إحدى الحسنين، لا يهابون لومة لائم في إحقاق العدل ونصرة المظلومين، كانوا على قلب رجل واحد، لم يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تخلف بنو إسرائيل عن موسى عليه السلام. جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وقدموا له صلى الله عليه وسلم المشورة، وأبانوا عن حنكة وخبرة سياسية رائدة في بداية الدعوة إلى الله.
وقفنا في رحلتنا بأطلال بدر مع ذكريات مجيدة، ونشد الرحال إلى أرض المقدس المباركة، ولكن شتان بين الأمس واليوم، فواقع فلسطين يظهر جليا حاضر الأمة الإسلامية وما آلت إليه من هوان وضعف. غيرنا ما بأنفسنا فسلبنا النعمة والعزة. يقول تعالى: ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأنفال 53].
مرضت الأمة وأصابها الوهن – حب الدنيا وكراهة الموت – فأصبحت أرضها ملاذا آمنا للفساد والطغيان، وتكالبت الأمم عليها، وخير دليل هو ما يحدث في غزة من إبادة للنساء والأطفال ومن انتهاك لحرمة الإنسان وإذلاله، بالتجويع والترويع والتشريد. فالعدو الصهيوني لم يذخر جهدا ولا سلاحا لهزم إرادة هذا الشعب المتمسك بأرضه، المدافع عن المسجد الأقصى الذي يعتبر من مقدسات الأمة، ومن أبرز معالم حضارتها عبر التاريخ. ولنذكر من نسي أو تناسى بأنه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث جاء في كتاب الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. [سورة الإسراء 1]. ولنذكر أن اليهود يقدسون أيضًا المكان نفسه، ويطلقون على ساحات المسجد الأقصى اسمَ «جبل الهيكل» نسبة إلى هيكل النبي سليمان، وتُحاول العديد من المنظمات اليهودية التذرع بهذه الحجة لبناء الهيكل حسب مُعتقدها. لكل هذا يجب على كل مسلم له غيرة على دينه النفير والذود عنه، كل من موقعه ودون تخاذل.
لكن للأسف الشديد وواقع الحال أن الأقصى والغزيين تركوا لمصيرهم، بهذا الصمت المهين والتطبيع الذميم. خذلان وخنوع من بني جلدتنا شجع العدو الغاصب على انتهاك حرمة الأقصى وزادت مطامعه لتهويده. وذلك بإصراره على إطفاء كل جذوة إيمان طموحة تحول دون ذلك. وأنى له، فرغم الوضع الحالك فإن الشعب الفلسطيني الأبي يبقى نبراسا يجلو لنا أملا، ويشع منه نور بطولات مشرقة. ترفع كرامته وكرامة المسلمين في كل مكان إلى الأعالي. شعب لم يرض بالدنية، ولم يستسلم لطغيان العدو الصهيوني الذي عاث وصال في أرضه، ضاربا عرض الحائط كل القوانين والقيم الإنسانية. ولكنه وجد ولله الحمد والمنة، مقاومة شرسة، أصيلة ثابتة، موصولة بالركب النوراني النبوي، واثقة بموعود الله ونصره. أربكت الغاصب المحتل رغم خبثه ودسائسه. مقاومة توجه لنا رسالة مضمونها قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا[الحج:40] وعليه فالجهاد ينبغي أن يمتد ويعم كل العالم الإسلامي، ويشمل جميع الميادين، الاقتصادية، العلمية والعسكرية…
ختاما فليحذر المسلمون من قوله عز وجل: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)[سورة النساء]. وخير لهم أن يخلصوا أنفسهم من هذا الوضع المخزي الذي استمر وطال. فالمقاومة الفلسطينية بقلة مواردها وعتادها تبقى نموذجا حيا يربط الماضي بالحاضر ويجرنا إلى التغيير جرا.