رحمته ﷺ بالمخالف

Cover Image for رحمته ﷺ بالمخالف
نشر بتاريخ

تغيرت الدنيا بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأصبحت نورا ورحمة للأمة الإسلامية والعالم أجمع، رحمته أشرقت بها القلوب وامتلأت بنورها، وعم الإقبال على الله. في حين نجد أن هناك تهم جاهزة تلفق للإسلام بوعي أو بدون وعي، تدعي أنه دين عنف وحرب، استنادا على فتاوى بعض المنتسبين للإسلام الداعين بوجوب قتال غير المسلمين، أو على وقائع تاريخية مزورة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستغل أعداء الدين الإسلامي الفرصة من أجل تشويه سمعة الرسالة المحمدية، فيصفون النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بأبشع النعوت من قبيل “رجل قتال” أو “رجل حرب” وغير ذلك من صفات العنف والغلظة.

إن الشاهد على رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، سيرته العطرة التي تداولتها كتب السير والتاريخ الإسلامي، الحافلة بذكر مناقبه ومواقف من حياته الشريفة التي تثبت عفوه وحلمه صلى الله عليه وسلم، نستعرض شذرات منها على سبيل المثال لا الحصر.

المُعاهد

غلب في حياتنا المعاصرة كثرة المعاهدات والمواثيق الدولية، وكثر معها نقض هذه المواثيق والمعاهدات والإساءة إلى المتعاهدين، بل الأمر تجاوز الحد حتى أصبح عاديا. في حين نجد الإسلام شدد الوعيد على من يقتل معاهدا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما” (1).

من أخلاق النبي الوفاء بالعهود والمحافظة عليها. وهذا الحديث فيه تحذير من قتل المعاهدين، فالواجب على من أعطى العهد والذمة أن لا ينقض عهده، بل يبقى عليه حتى تمضي المدة التي عاهد عليها، وبذلك تحرم دماؤهم وأموالهم، فالمعاهد له ذمة الله وذمة رسوله. فدين الإسلام دين الوفاء وليس دين الغدر والخيانة، مع المؤيدين والمخالفين، ولا يقال هذا من الجهاد في سبيل الله كما يدعي بعض الغلاة فيبدؤون بتفجير المباني والسفارات والمواطن الآهلة بالمدنيين.

 الغلام اليهودي

ثبت “أَنَّ غُلَامًا مِنَ اليَهُودِ كَانَ يَخدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ: أَسلِم. فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ لَه: أَطِع أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. فَأَسلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: (الحَمدُ لِلَّهِ الذِي أَنقَذَهُ مِنَ النَّارِ)” (2).

إن خدمة الغلام اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم لخير دليل على رحمته وعفوه وطيب معشره، فقد كان يرجو الخير لكل الناس، ولم يترك أي فرصة لدعوتهم وهدايتهم، ويفرح أشد الفرح لاستجابتهم لدعوة الحق. إن رحمته صلى الله عليه وسلم من رحمة الله تعالى التي وسعت العالمين؛ برهم وفاجرهم.

معاهدة الحديبية

بعد أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، أخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحا شديدا، شوقا لموطنهم الأصل “مكة”، ورغبة في أداء العمرة التي حرموا منها سنوات عديدة، يقينا منهم أن رؤيا الأنبياء حق، “فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما له” (3)، فلما وصل إلى الحديبية بركت ناقته، فأقام في ذلك المكان، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم منهجه في التعامل مع قريش: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (4).

فكتب في الكتاب: “هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله”، فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ولكن أنت محمد بن عبد الله (5).

فتنازل النبي صلى الله عليه وسلم حقنا للدماء. وتعاهد الطرفان كتابة على مجموعة من البنود الثابتة تاريخيا، والتي تؤكد كلها سلمية منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزامه بعدم خرق أي بند من تلك المعاهدات التي “لم تكن شعارات فقط بل كانت نموذجا عمليا واقعيا متكاملا يقدمه النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أولا حتى يقتدوا به وللمخالفين حتى يقتنعوا بأن ما جاء به محمد إنما هو رحمة للإنسانية” (6)، ودليل على قبول المخالف مهما كان دينه. كان اهتمامه صلى الله عليه وسلم تغيير قلوب الناس وعقولهم ولم يحاول فرض معتقد ديني (7).

مراعاة وُسع الناس وطاقاتهم

 جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني كلاما أقوله، قال: “قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولاقوة إلا بالله العزيز الحكيم، قال: فهؤلاء لربي، فمالي؟ قال: “قل: اللهم  اغفر لي، وارحمني، واهدني وارزقني” (8).

نرى هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل بحلم وروية مع الأعرابي صاحب الطبع الحاد والفهم الساذج، يقول: هذا لربي، فمالي؟ والنبي لم يوبخه، بل علمه دعاء، وقدر فهمه حتى لا يسبب له حنقا وغضبا على الإسلام.

وعن أم هانئ رضي الله عنها  قالت: أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، دلني على عمل، فإني كبرت وضعفت وبدنت… فقال: “كبري الله مائة مرة، واحمدي الله مائة مرة، وسبحي الله مائة مرة، خير من مائة فرس ملجم مسرج في سبيل الله، وخير من مائة بدنة، وخير من مائة رقبة” (9).

يتضح لنا جليا من هذا الحديث كيف أن الرسول تحدث إلى المرأة العجوز الضعيفة، مراعيا  كبر سنها وضعف صحتها، حيث أرشدها إلى أعمال البر التي تناسب حالتها، واصفا لها ما هو خير لها من فرس ملجم في سبيل الله، وخير من مائة بدنة، وخير من مائة رقبة.

ما أحوج أمتنا اليوم وهي تعيش حدث الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى التشبث بسنة الرحمة النبوية المهداة، خاصة ورسولنا الكريم بمواقفه العظيمة يعلمنا الحذر من العنف والغضب لغير الله، ويدعو إلى التمسك بالرحمة والتسامح وكظم الغيظ، دون أن نرضى الدنية في ديننا. فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لعانا ولا فحاشا، كما لم يدع لقطع رحم، وعلى نهجه سار خلفاؤه الراشدون من بعده فاتسعت رقعة الإسلام وتمددت شرقا وغربا، سِرُّ ذلك كله رحمة الدين الإسلامي وسمت المسلمين، فلم يدخل المسلمون البلدان غزاة بالقوة ولم يكرهوا أحدا على اعتناق الإسلام بل حببوا للناس الإسلام بأخلاق الإسلام وبرحمة الإسلام، أما السيف فكان وسيلة أزاحت المستبدين بالحكم الجاثمين على صدور الشعوب المقهورة، المانعين لانتشار دعوة الله.


(1) أخرجه البخاري، كتاب الجزية والموادعة.

(2) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام.

(3) تاريخ  الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، اعتنى به أبو صهيب الكرمي، تاريخ الأمم والملوك، بيت الأفكار الدولية، ص: 407.

(4) نفسه، ص: 412.

(5) نفسه، ص: 413.

(6) بوعود، أحمد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول السلام، كتاب الجيب، منشورات الزمن، العدد 57 ، ص: 66.

(7)  نفسه، ص: 69.

(8) صحيح مسلم بشرح النووي، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، 17/19.

(9) سنن ابن ماجة، 3810، البيهقي، شعب الإيمان، ص261.