رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المربين: التربية بالدعاء (1)

Cover Image for رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المربين: التربية بالدعاء (1)
نشر بتاريخ

قال تعالى: لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیراً [الأحزاب 21].

هو صلى الله عليه وسلم أسوة المؤمنين الراجين الله، وما عند الله، الذاكرين الله كثيرا. هو صلى الله عليه وسلم أسوتهم في كل ما يفعلون من أعمال تعبدية وحياتية، فردية وجماعية، ومن تلك الأعمال تربية الناشئة، فإنه صلى الله عليه وسلم أعظم مرب. بما هي تزكية للأنفس ورقي بها إلى مستوى الكمال البشري، إيمانا وعبادة وسلوكا.

كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطفال كثر، تلقوا منه صلى الله عليه وسلم التربية الصحيحة وتخرجوا من مدرسته المباركة رجالا وأي رجال. لم يكونوا في مستوى واحد؛ سواء من حيث القرابة منه، أو من حيث الوضع الاجتماعي، أو من حيث الفهم والعلم وغيرها. فقد كان فيهم أحفاده ذكورا وإناثا كالسبطين الجليلين وكأمامة بنت زينب. وأبناء أعمامه، كعلي وابن عباس وجعفر. وكان فيهم مواليه كزيد وأسامة. وفيهم ربائبه كعمر بن أبي سلمة. وخدمه كأنس. وقرابة أزواجه. وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. كل هؤلاء رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان كل واحد منهم مدرسة متميزة بما اكتسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما صقل رسول الله صلى الله عليه وسلم مواهبه وزكى طباعه. وهنا تكمن عظمة التربية النبوية؛ فهي لم تخرج رجالا نسخا لنموذج واحد .

هذه السلسلة إن شاء الله تبحث في التربية النبوية، تتبع المستهدفين بهذه التربية وآثارها عليهم، تتقصى مبادئها وقواعدها، تبرز عظمتها وإعجازها.

يتساءل المربون آباء ومعلمين كيف التعامل مع الأطفال؟ ما التقنيات اللازمة؟ ما الخطوات المتدرجة؟ ما الغايات؟… وبما أن التربية تنصب على أعقد شيء خلقه الله، ألا وهو النفس البشرية، فإنها تصير بذلك عملية جد معقدة. ربنا أقسم في سورة الشمس قسما هو أطول قسم في القرآن على فلاح من زكى نفسه وخيبة من دساها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية التربية وصعوبتها.

لذلك بدأت بأول قاعدة في التربية النبوية ألا وهي الدعاء؛ فإنه لا يقدر على تغيير هذه النفس سوى خالقها، لتبقى باقي المبادئ التربوية أسبابا فقط رغم أهميتها.

لا ينبغي للمربي أن يغفل عن الدعاء، وقد أمرنا الله به ووعد بالإجابة، وعدّه عبادة جعل المستنكف عنها مستكبرا توعده بالنار.

وفي سورة الفرقان ختمت صفات عباد الرحمن بالدعاء لذرياتهم أن يكونوا لهم قرة أعين. وثمة أدعية كثيرة في القرآن لأنبياء ورسل يدعون لذرياتهم بالصلاح؛ كدعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، ودعاء سيدنا زكرياء وامرأة عمران عليهما السلام.

وفيما يلي نماذج لأدعية نبوية للأطفال.

كان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كانَ النبيُّ ﷺ يُعَوِّذُ الحَسَنَ والحُسَيْنَ، ويقولُ: إنَّ أَباكُما كانَ يُعَوِّذُ بها إسْماعِيلَ وإسْحاقَ: أَعُوذُ بكَلِماتِ اللَّهِ التّامَّةِ، مِن كُلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ 1 فما أحوج أبناءنا لمن يعوذهم من شياطين الجن والإنس المتربصة بهم تجتالهم وتحرف فطرتهم.

كان صلى الله عليه وسلم يدعو لأحفاده بالقرب من الله ونيل محبته والحفظ من النار. دعاء يخترق الدنيا ويجاوز ما يحرص الآباء على الدعاء به لأبنائهم. إنه يرغب في معالي الأمور لا سفاسفها.  عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها: بينَما رسولُ اللهِ ﷺ في بيتي، إذ قالتِ الخادِمُ: إنَّ عليًّا وفاطمةَ بالسُّدَّةِ. قال: قومي عن أهلِ بيتي. قالَتْ: فقُمتُ، فتَنحَّيْتُ في ناحيةِ البيتِ قريبًا، فدَخَلَ عليٌّ وفاطمةُ ومعهمُ الحسَنُ والحُسَينُ، صَبيّانِ صغيرانِ، فأَخَذَ الصَّبيَّينِ فقبَّلَهما، ووَضَعَهما في حِجرِه، واعتنَقَ عَليًّا وفاطمةَ، ثم أَغدَفَ عليهما ببُردةٍ له، وقال: اللَّهمَّ إليكَ لا إلى النّارِ، أنا وأهلُ بيْتي. قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، وأنا؟ فقالَ: وأنتِ 2.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: خَرَجَ النَّبيُّ ﷺ في طائِفَةِ النَّهارِ، لا يُكَلِّمُنِي ولا أُكَلِّمُهُ، حتّى أتى سُوقَ بَنِي قَيْنُقاعَ، فَجَلَسَ بفِناءِ بَيْتِ فاطِمَةَ، فَقالَ: أثَمَّ لُكَعُ؟ أثَمَّ لُكَعُ؟ فَحَبَسَتْهُ شيئًا، فَظَنَنْتُ أنَّها تُلْبِسُهُ سِخابًا، أوْ تُغَسِّلُهُ، فَجاءَ يَشْتَدُّ حتّى عانَقَهُ وقَبَّلَهُ، وقالَ: اللَّهُمَّ أحْبِبْهُ وأَحِبَّ مَن يُحِبُّهُ 3.

كان صلى الله عليه وسلم يدعو لأبناء الصحابة، وكانوا يأتونه بأطفالهم رجاء بركته وحرصا على دعائه. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: وُلِدَ لي غُلامٌ، فأتَيْتُ به النَّبيَّ ﷺ فَسَمّاهُ إبْراهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بتَمْرَةٍ، ودَعا له بالبَرَكَةِ، ودَفَعَهُ إلَيَّ. وكانَ أكْبَرَ ولَدِ أبِي مُوسى 4.

ودعا لابن عباس رضي الله عنهما بالفقه فكان حبر هذه الأمة. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ ﷺ دَخَلَ الخَلاءَ، فَوَضَعْتُ له وَضُوءًا قالَ: مَن وضَعَ هذا؟ فَأُخْبِرَ فَقالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ 5.

ودعا لخادمه أنسا فكان كما دعا. عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مالَهُ وولدَهُ وأطلْ عمرَهُ واغفرْ ذنبَهُ 6.

في هذين الحديثين الأخيرين تظهر فضيلة الخدمة؛ فبسبب خدمة ابن عباس رضي الله عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم – حيث أعد له وضوءا – دعا له دعاء عظيما، وكذلك أنس رضي الله عنه، فقد خدمه عشر سنين. خدمة خيار الناس وخدمة الدعوة هي المقصودة.


[1] صحيح البخاري (3371).
[2] أخرجه أحمد (26600) واللفظ له، وابن أبي شيبة (32767)، والطبراني.
[3] صحيح البخاري (2122)، ومسلم (2421).
[4] أخرجه البخاري (5467)، ومسلم (2145).
[5] صحيح البخاري (143). أخرجه مسلم (2477) باختلاف يسير.
[6] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8451).