من سنة الله عز وجل في كونه أن خلق الناس مختلفين، وجعلهم أقواما وأممًا، وبعث فيهم أنبياء ورسلا ليدعوهم إليه ويعلموهم دينهم الذي ارتضى لهم ويفقهوهم فيما شرع لهم ويدلوهم عليه. ولم تكن هذه المهمة؛ مهمة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عز وجل، بالسهلة، ولم تكن استجابة من استجاب لهم هينة، ولا الاستجابة نفسها عامة وشاملة. فكانت المعاناة وكان الأذى، مما استوجب الحكمة والصبر والحلم ولين الجانب ليتم التبليغ عن الله، ويركب سفينة النجاة السواد الأعظم من الأمة.
وقد صنع الله سبحانه وتعالى أحبابه من الأنبياء والرسل على عينه ولتصنع على عيني (الآية 39 من سورة طه) وأيدهم بنور منه يمشون به في الناس، وخص كلا منهم بما يناسب قومه وزمانه.
وبعث رسول الله صلى عليه وسلم برسالة الإسلام في قومه، وقد لاقى منهم من الأذى ما لا يمكن وصفه، خصوصا في بداية الأمر. ولكن رحمته وحلمه وسعة صدره كانت تشمل كل الناس، وتطفئ غضبهم، وتهدئ من روعهم وتبدل أحوالهم. ولذلك خلقه الله سبحانه وتعالى عز وجل إذ يقول في كتابه العزيز: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الآية 106 من سورة الأنبياء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا رحمة مهداة” (1).
توضح الآية أعلاه أن الرسالة جاءت من أجل الرحمة، وقد أكدت الآية الكريمة على ذلك فقال الله سبحانه وتعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّا غليظ القلب لا نفضوا من حولك (الآية 159 من سورة آل عمران).
إذن فالدعوة تحتاج إلى الرحمة والرفق والحلم والأناة والصبر على الناس، ونحن نعلم أننا مكلفون بالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في زمن الفتنة يختلف الناس في فهم الإسلام، ويتفاوتون في إدراك معانيه، وهذا أمر شاق يتطلب رفقا وتدرجا، فنحن في حاجة لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به والنهل من سيرته.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه” (2).
وفي رواية أخرى له: “إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”.
فمن صلب التربية الاقتداء برفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وشفقته على كل خلق الله عز وجل.
قال الأستاذ عبد السلام رحمه الله: “.. فإننا لن نسع الناس، ولن ينفتح لنا الناس، إن تقدمنا إليهم بالوجه العابس والتشديد والتعسير. وفي السيرة المطهرة أمثلة رفيعة لرفق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس دينهم، وتدرجه بهم وحلمه على ذوي الطباع الخشنة وقليلي الفقه” (3).
فالناس في حاجة إلى القلب الرحيم، يهتم بهم ويرعاهم ويسامحهم ويعطف عليهم ويتدرج بهم لمعرفة دينهم.
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما أكثر الأمثلة الدالة على رفقه صلى الله عليه وسلم، أذكر بعضها:
1- ذكر ابن الأثير حديثًا طويلًا لعدي بن حاتم الطائي عن حواره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى بإسلامه، أخرجه بن ماجة في السنن، وقال بعده:
” قيل: إنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى طيئ أخذ عدي أهله، وانتقل إلى الجزيرة، وقيل: إلى الشام، وترك أخته سفّانة بنت حاتم، فأخذها المسلمون، فأسلمت وعادت إليه فأخبرته، ودعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضر معها عنده، فأسلم وحسن إسلامه” (4).
2- وهذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى مع الكفار والأعداء الذين آذوه وقاتلوه، قال صلى الله عليه وسلم: “اللهم اهد دوسا” (رواه أبو النعيم عن سفيان عن ذكوان عن بن هريرة)، وقال: “اللهم اهد ثقيفا” (رواه أحمد والترمذي)، وقال: “إن الله لم يبعثني طعانا ولا لعانا، ولكن بعثني داعيا ورحمة.. اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون” (رواه البيهقي في شعب الإيمان).
وسبب الدعاء لهم أن بعض الصحابة قال له بعد ما أصابه يوم أحد: ادع عليهم يا رسول الله.
3- روى عباد بن مصعب عن ربيعة بن عثمان قال: أتى أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنعيمان: لو نحرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم، ويغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنها؟ قال: فنحرها نعيمان ثم خرج الأعرابي فرأى راحلته، فصاح: واعقراه يا محمد فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “من فعل هذا؟” فقالوا: نعيمان فأتبعه يسأل عنه، فوجدوه في دار صباغة بنت الزبير بن عبد المطلب مستخفيا، فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول: ما رأيته يا رسول الله. وأشار بإصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: “ما حملك على هذا؟” قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح وجهه ويضحك. وغرم ثمنها” (5).
والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدًا، ذلك أن كل حياته صلى عليه وسلم كانت خدمة وعطاء وتعليما وتبليغا وحلمًا وأناة ورحمة. ونحن، إذ ندبنا أنفسنا لاتباعه والتأسي به، نسأل الله سبحانه وتعالى عز وجل أن ييسر لنا السبل، وأن يستعملنا في دعوته، ويستعملنا في طاعته، وأن يرزقنا الأدب معه ومع كل خلقه.
(1) أخرجه الدارمي وابن شيبة.
(2) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
(3) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص: 313.
(4) ابن أثير، أسد الغابة في حياة الصحابة، ج4، ص9.
(5) ابن أثير، م. س، ج5، ص332.