حين هل اليوم الأول من رمضان، دخلت المسجد وفتحت القرآن، صافحتني رائحة الورق العتيقة ودخل صدري اطمئنان طالما افتقدته.
فهذا الشهر، يُضيء شيئًا بداخلنا، نشعر برغبةٍ في أن نكون «أحسن عملًا»، ننتظر أول صلاة تراويح في المسجد لتَنبُت أرواحنا. كلٌ منّا وله ثقوبه، فنشتاقُ شهرًا نردمُ فيه أنانيتنا المستعلية وعاداتنا الجارفة.
ففي نهاية الأمر ما الدُنيا إلا أيام؛ وما نحن إلا أيام؛ وما رمضان إلا أيام معدودات.
بدأت أقلب الصفحات كي أستزيد من تلك الرائحة الساكنة ورق ذاك المصحف العتيق إلى أن سقط بصري على الآية التالية: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه.
تعجبت لهذا العقاب الغريب!
لم يخوفهم الله تعالى بنار أو عذاب وإنما بأرق شيء في الوجود؛ يخوفهم بالحب، بأن يستبدل بهم قوما يحبهم ويحبونه. جلست أتأمل هذا المعنى وأنا أستزيد من رائحة الورق العتيق. أتأمل كيف جعل اللهُ الحبّ سرا من أسرار هذا الكون الفسيح. وقد قرأت ذات مرة أن من العارفين بالله من ينظر إلى الحب كسبب للخلق بل يرون الحب حاكما في الوجود، وسببا في ميلاد الكون.
فالله لم يخلقنا إلا ليتفضل علينا بحبه، ويتفضل علينا بأن يسمح لنا بحبه، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: “اللهم إني أسألك حبك.. وحب من يحبك.. وعملا يقربني إلي حبك”.
يقول الإمام ياسين رحمه الله “وحب الله الخالق المنعم مغروزٌ في الفِطَرِ الكريمةِ المَعْدِنِ، تَطْمِرُه الطّوامر وتُبرزه من مكامنه صحبة من “ينهض بك حاله، ويدلك على الله مقاله”. والمؤمنون في حبهم لله مراتب، فالعامة يحبونه لما يغذوهم به من نعم ومِنَن، وخاصة أهل الله يحبونه عبودية وإخلاصا وشوقا.
يأتي رمضان دائما ونحن في أمس الحاجة إليه. يمنحنا لحظات خاصة جدا نتذوق فيها معاني روحية خالصة، نتوقف أمامها طويلا، قد نأخذ منها نبراسا لسلوكنا فى طريق الله، وقد نسعد بها في وقتها ثم ننساها بعد ذلك، ونعود إلى سيرتنا الأولى.
يأتي رمضان فتمتلئ المساجد فجأة، تتزاحم الصفوف ويحتل المصلون الشوارع و تتلى آيات الله آناء الليل وأطراف النهار.
نفس المشهد يتكرر عبر الفضائيات وفي كل مدن العالم، أناس مختلفون، بثياب مختلفة وألوان مختلفة وألسنة مختلفة وجنسيات مختلفة لكنهم كلهم متجهون نحو قبلة واحدة، يتمتمون بنفس الآيات. يركعون ويسجدون.
تتسرب إلى روحي سكينة علوية حين أتخيل أن هذا البناء الشامخ بناه رجل واحد منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام! رجل واحد فقط، ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد، نظر إلى السماء فوجدها كبيرة، وإلى الأرض فوجدها شاسعة، وإلى الناس فوجدهم أخلاطا متنافرين، نزل عليه الروح الأمين طلب منه أن يدعو كل هؤلاء إلى عبادة الله، كيف تحقق هذا الشيء المذهل؟ كيف تحول مسلم واحد إلى مليارات المسلمين؟ وتمكن من دعوة العالم أجمع، وأنشأ هذا الصرح الهائل العظيم؟
اتهموه بأنه كاهن، واتهموه بالجنون واتهموه بالسحر، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، وطلبوا منه معجزات من نوع معين، أعلنوا أنهم لن يؤمنوا له حتى يفجر لهم من الأرض ينبوعا أو تكون له جنة من نخيل وعنب، فيفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو يسقط السماء كما زعم عليهم قطعا من العذاب، أو يأتي بالله والملائكة يضمنون لهم صحة ما يدعوه إليه، أو يكون له بيت من ذهب، أو يصعد في السماء ولن يؤمنوا لصعوده إلا إذا صعد أمام أعينهم وعاد وأحضر لهم كتابا يقرأونه من السماء.
فتأمل، حجم العناد وتأمل كيف صرنا، أنت وأنا، بعد أزيد من ألف وأربعمائة سنة نشهد أنه رسول الله وأنه شمس الأنبياء وأنه سيد أبناء آدم، وأنه رحمة الله المهداة إلى البشر.
قلتُ لأحد أولياء الله: أوصِني؛ فقالَ: الزَم حُبّه حتى يُحبّك، فإن أحَبَّكَ أوصَلَكَ إليه. وقبل أن أنصرف، ربت على كتفي هامسا يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ثم ابتسم ابتسامة واسعة لم أر أجمل منها وهو يتلو: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ.