شهر رمضان من أعظم مواسم الخير وفرص الفوز؛ حيث تستعد الهمم العالية للإقبال على الله تعالى وذلك بالتحقق بمعاني الصيام والاغتراف من بحار القرآن الكريم الزاخرة تلاوة وتدبرا.
1- نزول القرآن في شهر رمضان
وقد حاز شهر رمضان فضلا على سائر الشهور بتخصيصه بعبادة الصيام التي هي ركن من أركان الإسلام، ولارتباطه بنزول القرآن فيه. قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 184]. فكيف كان هذا النزول؟ ذكر السيوطي رحمه الله في الإتقان قال: “وأخرج الطبراني والبزار عن ابن عباس قال: “أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم”. وأخرج ابن أبي شيبة في فضائل القرآن، من وجه آخر عنه: “دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة، فوضعه في بيت العزة، ثم جعل ينزله تنزيلا” 1.
وقيل ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة.
2- تعامل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف مع القرآن في رمضان
ولذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام تعامل خاص مع القرآن الكريم في هذا الشهر العظيم. عن ابن عباس قال: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ” [أخرجه البخاري].
وعلى هذا الأمر سار الرعيل الأول من سلف الأمة وصلحاؤها في كل زمان. قال ابن رجب: “وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها. كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان. وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث. وكان قتادة يختم في كل سبع دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة. وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة. وعن أبي حنيفة نحوه. وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. قال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت….. ) 2.
3- التدبر روح التلاوة
رمضان إذن هو شهر الاجتهاد في تلاوة القرآن الكريم وختمه مرة بعد مرة لكن مع عدم إغفال تدبر آياته. قال الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 25].
والتدبر هو التأمل العميق والتفكر الواعي في معاني آيات القرآن الكريم لفهم مقاصدها وسبر أغوارها واستخلاص الدروس والعبر منها. هو ليس مجرد قراءة اللفظ أو الاستماع إلى الآيات والقلبُ غافلٌ لاه، بل هو رحلة عقلية وقلبية لفهم الرسائل التي تحملها الآيات من أجل تطبيقها في الحياة اليومية.
قال ابن القيم: “هو تحديق ناظر القلب إلى معاني القرآن، وجمع الفكر على تأمُّله وتعقُّله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر” 3، وقال الخازن: “أصل التدبر: النظر في عواقب الأمور، والتفكر في أدبارها، ثم استعمل في كل تفكر وتأمل، ويقال “تدبرت الشيء” أي: نظرت في عاقبته، ومعنى تدبر القرآن تأمل معانيه، والتفكر في حكمه، وتبصر ما فيه من الآيات” 4.
وقال النووي رحمه الله: “فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال الله عز وجل: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ، وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ، والأحاديث فيه كثيرة، وأقاويل السلف فيه مشهورة، وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح، وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة، ومات جماعة حال القراءة” 5.
4- فوائد التدبر
للتدبر فوائد كثيرة منها:
– فهم معاني القرآن للمسلم العادي الذي يقرأ القرآن تعبدا وتقربا إلى الله عز وجل، فلا تكون التلاوة عبادة تامة إلا إذا حاول فهم مراد الله عز وجل من كلامه. وكذلك فهم معاني القرآن للعالم الذي يروم استنباط الأحكام أو تفسير آي القرآن أو استخلاص علاج لمشاكل الناس أفرادا وجماعات من هدي القرآن.
– زيادة الإيمان وحلول الهداية في القلب. فالقرآن كلام الله وهو النور والضياء والهدى، وكلما تدبره المسلم وفهم معانيه ازداد إيمانا وحلت أنوار الهداية بقلبه. قال تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2].
– التدبر سبب عظيم موصل للخشوع، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 109-108-107]. فمن أدرك أنه يتلو كلام الله رب العالمين ازداد خشوعا وإجلالا لكلام الله عز وجل.
– التحفز للعمل الصالح وتجنب المعاصي وتطبيق ما جاء في القرآن الكريم من أوامر.
– يصير القرآن ربيع القلوب ونور الصدور وذهاب الأحزان وجلاء الهموم والغموم.
5- ومن الوسائل المساعدة على التدبر
– تخصيص وقت يومي للقراءة المتأنية المساعدة على التدبر.
– استحضار القارئ أن القرآن هو كلامُ الله عز وجل خالقِ الكون ومدبرِه، المنزّلُ على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. الأمر الذي يستوجب أدبا رفيعا من أبرز مظاهره الفهم والتدبر.
– النية الصادقة وذلك بقراءة القرآن امتثالا لأمر الله عز وجل وإخلاصا لوجهه الكريم وابتغاء مرضاته سبحانه
– سماع القرآن الكريم مرتلا مجودا من طرف القراء المتقنين المهرة. قال عليه الصلاة والسلام لسيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إني أحب أن أسمعه من غيري” [أخرجه البخاري ومسلم].
– الرجوع إلى كتب التفسير لفهم معاني الآيات.
– الصحبة الصالحة التي تُعين القارئ على التأدب مع كلام الله وتعلمه كيف يتدبر آياته.
– صفاء القلب بالتوبة والذكر حتى تتجلى له المعاني الحسان التي أودعها الله تعالى في كتابه.
– الدعاء وسؤال الله عز وجل أن يفتح للقارئ أبواب الفهم والتدبر لآيات الله عز وجل.
– كتابة تأملات أو خواطر حول الآيات التي تؤثر في القارئ.
– تدارس القرآن الكريم مع العائلة أو مع الأصدقاء في جلسات إيمانية.
– تعلم اللغة العربية والارتقاء في مدارج إتقانها لأنه يفتح أبواب التدبر وفهم معاني القرآن الكريم الذي أنزل بلسان عربي مبين.
– استشعار القارئ أنه هو المخاطَب بآيات الله عز وجل كما أوصى أحدهم ابنه قائلا: (يا بني اقرأ القرآن وكأنه أنزل عليك).
– التهجد به ليلا خصوصا في وقت السحر حيث يناجي المحبون ربهم بكلامه. وهو وقت السكون والطمأنينة وتنزُّل النفحات الربانية. قال سهل بن عبد الله لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا؟ قال: واغوثاه لمؤمن لا يحفظ القرآن! فبم يترنم؟ فبم يتنعم؟ فبم يناجي ربه؟
– ترديد الآية التي تؤثر في القلب وتكرارها والتفكر في دلالاتها ومعانيها العميقة. قال الإمام النووي: “وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح” 6.
خاتمة
التدبر هو الذي يفتح للقارئ كنوز القرآن الكريم. إنه ليس علما نظريا بل هو تجربة روحية يعيشها القارئ مع كل آية..