لَم يكُنْ شهرُ رمضان الكريم بكلِّ ما يتضمنه مِن معانٍ دينيَّة ورُوحيَّة سامية بالحدث الذي يُغْفله الشعراءُ والأدباء على مرِّ العصور، إذ حفلت كُتُب الأدب، ودواوين الشُّعراء، بأشعار رائقة فيها ذِكْر لفضائل هذا الشهر الكريم، وما أودع الله فيه من خيرات وبركات وأنوار وسبحات إلى غير ذلك من الموضوعات ذات الصلة بالضيف الكريم. ومن ذلك قول الشاعر الأندلسي ابن الصباغ الجذامي، احتفالاً بمقدم هلال رمضان:
هَذَا هِلالُ الصَّوْمِ مِنْ رَمَضَانِ ** بِالأُفْقِ بَانَ فَلا تَكُنْ بِالوَانِي
وَافَاكَ ضَيْفًا فَالتَزِمْ تَعْظِيمَهُ ** وَاجْعَلْ قِرَاهُ قِرَاءَةَ القُرْآنِ
صُمْهُ وَصُنْهُ وَاغْتَنِمْ أَيَّامَهُ ** وَاجْبُرْ ذِمَا الضُّعَفَاءِ بِالإِحْسَانِ
وقد نظم الإمام عبد السلام ياسين أشعارا حسانا في ذكر هذا الشهر الفضيل، تنوعت موضوعاتها بين الترحيب بالشهر الكريم، والدعوة إلى اغتنام أيامه ولياليه في الإقبال على الله تعالى. والتذكير بالأمجاد والبطولات التي شهدها هذا الموسم الرباني، متأسفا على ما آلت إليه أوضاع أمة الإسلام من ذلة ومهانة.
رمضانُ حلَّ فيا عزائمُ صمِّمي
يقول رحمه الله تعالى مرحبا بقدوم الشهر الفضيل، داعيا إلى توبة نصوح تجبّ ما قبلها، وتمحو ما سلف من الذنوب، مؤكدا أن رمضان فرصة سانحة للجم النفوس عن غيّها، وكبح جماحها، مبرزا أنه مدرسة عظيمة تتربى فيها القلوب على معاني الصبر والعزم والجهاد 1:
رمضانُ حلَّ فيا عزائمُ صمِّمي ** واجفُوا المنام معاشرَ الرُّقادِ
إن كان أبلى فيكُمْ الإيمان ما ** جَنَتِ اليَدانِ بنَزْوَةٍ وتمادي
فهلالٌ أبركِ مطلعٍ في عامِكُمْ ** يدعو العُصاةَ لتَوْبَةٍ ويُنادي
قُوموا فلبُّوا للصيام أوامراً ** وتزوَّدُوا فلَنِعْمَ عقبَى الزَّادِ
زُمُّوا النُّفوسَ عن الهوى وتعاضدُوا ** لتسدِّدُوا من ميْلها بقيادِ
الله أكبر! أَلِّفُوا في صفِّكُمْ ** صفْوَ الشباب لقوْمةٍ وجهادِ
صلّى الإله على النبي محمدٍ ** والآلِ والأصحاب والأجنادِ
رَمَضَانُ شَرَّعَهُ الإلَهُ لِتَهْتَدِي فِيهِ النُّفوسُ
ثم يذكرنا رحمه الله تعالى بالمعاني السامية التي من أجلها شرع هذا الشهر الكريم، فهو شهر الهداية وتذكر الآخرة، وشهر غض الطرف وإمساك اللسان عن الغيبة والنميمة، كما أنه شهر الرحمة وتذوق حلاوة الإيمان، لا شهر القيل والقال، والكذب والزور، وقضاء لياليه في المسامرات التافهة.
يقول رحمه الله تعالى 2:
صَامَ العِبَادُ عنِ الطَّعامِ نَهارَهُمْ ** والنَّفسُ كَارِهَةٌ لِطُولِ مَلاَلِهَا
وَالزُّورُ ما انْتَبَذَتْهُ والتَذَّتْ بِهِ** وَتَمَرَّغَتْ فِي قِيلِهَا ومَقَالِهَا
والليْلُ قَضَّتْهُ مُسَامِرَةً لِمَنْ ** أطْرَى قَبيحَ فِعالِهَا وضَلالِهَا
رَمَضَانُ شَرَّعَهُ الإلَهُ لِتَهْتَدِي ** فِيهِ النُّفوسُ وَتَعْتَني بِمآلِهَا
وَتَغُضَّ طَرْفاً عَنْ غَرائِزِها التي ** لاَ يَفْتُرُ الإعْصارُ مِن بِلْبَالِهَا
وَتَذُوقَ مِنْ نَبْعِ السكينَةِ رَشْفَةً ** تَشْفِي سُمُومَ الفَتْكِ مِنْ أَصْلالِهَا
صلّى الإله على النبيِّ مُحمَّد ** حَتَّى تُفَكَّ النَّفْسُ مِنْ أغْلاَلِها
رمضانُنا وشهورُنا وزمانُنا زمنُ المهانة
ويظهر الإمام رحمه الله تعالى حسرته وألمه إذ عاد الشهر الفضيل، وأمة الإسلام تعيش ذلة ومهانة، وقدسنا الشريف في قبضة الأعداء، ينكلون بالأشراف الأحرار من الرجال والنساء، لكنه في المقابل يذكرنا برمضان بدر، رمضان النصر، رمضان العزة والشرف، رمضان القلوب المؤمنة الراكعة الساجدة، ليبث الأمل في النفوس، لعل الله يجري الخير والنصر والفتح على أيدي الأجيال اللاحقة.
يقول رحمه الله تعالى 3:
لُذْنَا بجاهِ المرسَل المحبوبِ ** شهرُ الهداية والتلاوة والبشائِرْ
شهرٌ به القرآن أُنْزِلَ مُشْرِقاً ** مِنْ نورِهِ اصطَبَحَتْ قلوبٌ والبصائرْ
رمضانُ عاد وقدسنا في قبضة ** عصرتْ بقسوتِها الأسِيراتِ الحرائرْ
رمضانُ بدْرٍ كان عزَّ صحابة ** باعوا نفوساً للإله على المخاطِرْ
رمضانُنا وشهورُنا وزمانُنا ** زمنُ المهانة والمذلَّة والخسائِرْ
ما ذاك إلا أنَّ أيمانا لنا ** خلَقٌ، تُغَلِّفُ قلبَنا سُودُ الدَّياجِرْ
صلى الإله على النبي محمد ** فبِحُبِّهِ وبهديه تصفُو السّرائِرْ
مرحباً يا ليلةَ القَدْرِ
ويظهر الإمام سعادته وولهه وشغفه بحلول ليلة البركات والأنوار، ليلة الخيرات، ليلة القرآن، ليلة الرحمة، ليلة القدر.
يقول رحمه الله تعالى 4:
ليْلةَ القَدْر حَلَلْتِ بنا ** مرحباً يا ليلةَ القَدْرِ
أنتِ فينا رحمةٌ نزلَتْ ** أنتِ فينا غُرَّةُ الدَّهْرِ
برَكاتُ الله تَكْلَأُنا ** فيكِ حَتّى مطلَعِ الفَجْرِ
ليْلَةَ القُرآنِ طِيبِي لنا ** بتِلاواتٍ وبالذِّكْرِ
وَتَرَاويحَ تُجَمِّعُنا ** فِي مَحاريبَ لَنَا زُهْرِ
ربِّ نَوِّرْنا بلَيْلتِنا ** نوِّرِ القلْبَ مَدَى العُمْرِ
صل يا رب على المصطفى ** هُوَ مِنّا آيةُ الطُّهْرِ
أيا عابدَ الأيّامِ وَيْحَكَ تلعبُ
ويعتب الإمام رحمه الله على أولئك الذين يهجرون المساجد، ويركنون إلى عالم الغفلة، وينامون عن صلاة الفجر بعد رحيل رمضان، منبها رحمه الله إلى أن الله عز وجل جعل خيراته وبركاته وأنواره في كل الليالي والأيام، وإنما رمضان كان غرة الشهور، لتجديد العزم، ورفع الهمم للمعالي، ومزايلة الكسل.
يقول رحمه الله تعالى 5:
أيا عابدَ الأيّامِ وَيْحَكَ تلعبُ ** وتُتْلِفُ عُمْراً في الفراغ وتكذبُ
أتى رمضانُ الخيِر فارْتَدْتَ مسجدا ** فلما تولى صرت عنه تَنَكَّبُّ
ونمْتَ عن الفجرِ الكريم شُهُودُهُ ** وما جئتَ تبغي صَفَّنَا حين تغْرُبُ
وما جعل الله الكريمُ ليالياً ** وأيامَ فضْلٍ عندها النور يُسكَبُ
سوى غُرَّةٍ وَسْطِ الزَّمان تُمِدُّنا ** بعزْمٍ به همَّاتُنَا تتوثَّبُ
فَننْبِذُ أسبابَ الوَنَى وتكاسلاً ** ونَعْبُدُ طول العُمْرِ والأجرَ نكْسِبُ
فصلِّ على المختار، رب، وسلِّمَنْ وسدِّدْ خُطى من جاء وجْهَكَ يطْلُبُ
رمضان مضَيْتَ على عَجَلِ
ويظهر رحمه الله أسفه وحزنه لرحيل رمضان، ويود لو يمكث بين ظهرانينا العام كله، لأنه شهر الهداية والقرآن، شهر الجهاد والصبر. ويختم بدعاء جميل سائلا المولى الكريم أن يعتق رقاب الناس من النار في هذا الشهر العظيم، راجيا الرحيم أن يحقق سؤله.
يقول رحمه الله تعالى 6:
رمضان مضَيْتَ على عَجَلِ ** لَيْتَ تَبْقَى العامَ بلا نُقَلِ
شهرَ القرآنِ هُدىً نَزَلَتْ ** بينِّات الله على مهلِ
لرَفيعِ القَدْرِ محمدنا ** وبِلَيلتِه حَفْلِ الرُّسُلِ
بَرَكاتُ الله بها هَطَلَتْ ** ولِحِكْمَتِهِ خيرُ النُّزُلِ
وجهادٌ فيكَ مضَى مَثَلاً ** في بدرٍ لنا أعلى المُثُلِ
أَعْتِقْ رَقباتِ الناس بِه ** مولايَ وحَقِّقْ لي سُؤُليِ
وصلاتُك أرْسالاً نزلتْ ** لحبيبك في غيب الأَزَلِ