روح الروح

Cover Image for روح الروح
نشر بتاريخ

في ليلة ماطرة باردة من ليالي الشتاء، داخل خيمة مهترئة مغمورة بمياه الأمطار تكاد تقتلعها ريح هوجاء؛ نادى الطفل الغزي الصغير بصوته المرتجف: “أماه.. أماه، أنا بردان، غطيني أرجوك يا أماه، دفئيني فقد تجمدت من البرد”.

من شدة البرد القارس نسي الطفل الناعم جوعه وضعفه ومرضه وخوفه من دوي القصف المرعب فوق رأسه، وظل يرتجف ويتململ طوال الليل؛ يئن تارة ويستغيث بأمه تارة أخرى، منطويا منكمشا كأنه كتلة ثلج باردة داخل خيمة من خيم النازحين؛ حيث لا أبواب ولا نوافذ ولا جدران ولا أسرة ولا أفرشة، حيث لا يعرف الجوع ولا البرد ولا القصف أي استئذان، حيث لا يسمع صوت غير صوت الوجع والحرمان.

ساد صمت قصير مشوش اختلط فيه دوي الرعد بدوي القصف بعويل الصغار بصراخ الأمعاء بأنين الأرواح بتنهد الزفرات باصطكاك الأسنان.. ثم انطلق الصوت الصغير مرة أخرى مرتجفا مكلوما مظلوما: أمي إني أموت بردا يا أمي.. روحي تكاد تفارقني ونَفَسي يكاد يتوقف من شدة البرد يا أمي.

في صورة حقيقية مهيبة حبلى بالمعاني النبيلة كان الأب يحضن ابنه بخوف وحب وحنان، يحاول تدفئة صغيره بنَفَسه المتقطع الضعيف رغم حسرته وحزنه وبرده وخوفه على فلذة كبده أكثر من خوفه على نفسه.

تبللت الخيمة المهترئة والأغطية والملابس بأمطار الخير وأمطار الدماء والدموع، ونزع الأب معطفه المبلل ليغطي ابنه فيما ظل بقميص مهترئ لا يستر ولا يغني من برد.

أخذ الصغير نفسا ثم نادى: أ.. مي.. أ.. م.. ـي أنا.. بردان.

الصغير المسكين لا يعلم أن أمه تغمدتها رحمة الله تعالى في الماضي القريب، مثلها كمثل آلاف الأمهات الشهيدات اللواتي استشهدن إجراما ووحشية وظلما وخذلانا وصمتا.

مازال الليل في منتصفه، ومازال تمازج الأصوات يزداد رعبا، ومازال البرد يزداد قساوة على جسم الصغير وأبيه. وما زال الأب رغم ضعفه وبرده يحاول ويصارع جاهدا من أجل البقاء والصمود، لا يملك غير الرجاء في الله عز وجل؛ فسبحان من إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون، وسبحان من غير قوانين الكون، فقال: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم.

بدأ الصوت يخفت شيئا فشيئا يكاد يسمع، ونَفَس الأب المتقطع لم يجد نفعا، ومعطفه المبلل زاد الصغير بردا. رفع الأب رأسه إلى السماء عاجزا فلاح له شعاع الأمل من بعيد، فظهرت خيوط المطر تتهاطل متطايرة ومتشابكة ترسم حالته وحالة وطن وأمة وتعبر عن واقع كليم، جريح، مذبوح، ومخذول، واقع لا اسم ولا عنوان ولا انتماء له.

قال الأب مهدهدا صغيره: هل أحكي لك تهويدة يا بطلي؟

صمت قليلا واستجمع أنفاسه التائهة وبروح اليقين قال: كان يا ما كان في القادم من الأيام ستحرر فلسطين وستعود البلد الآمن، سينجلي ليلنا يوما وستشرق شمسنا حتما، سينتهي بردنا وسنمتلك أكلا وطعاما، ستزهر أرضنا أمنا وسلاما..

تجلد يا بطلي إنما تجوع الأنفاس والأرواح.. وتبرد القلوب.. وتموت الضمائر.. نحن شعب خالد لا نموت.. نحن شعب عزيز لا نذل.. نحن وطن كتب بدماء الشهداء.. نحن تاريخ ومجد.. نحن وإن أعدمونا أو جوعونا أو قهرونا سنظل رمز الحياة والبقاء..

في القادم من الأيام يا بني سنمتلك بيتا صغيرا وسريرا مريحا وأغطية دافئة وأكلا ساخنا، سأشتري لك حذاء مبطنا وجوارب وقفازات من القطن، سأشتري لك محفظة وكتبا ومظلة، وسأطبخ لك حساء..

ستكبر حتما، ستكبر؛ وسيكبر معك الأمل والأماني والرجاء.. وستعظم معك الهمم والعزائم والرخاء.. وستنتصر للنساء والأطفال والضعفاء.. وستستنشق فلسطين هواء الحرية، إن موعدنا الصبح وإن الصبح لقريب.

طال سكوت الطفل وانقطع أنينه وضعف نفسه، وانحنى الأب على ابنه انحناء أم حنون، وضمه ضمة قلب محب رحيم، وغطاه بذراعيه، وقبله قبلة في الجبين سقطت معها دمعة غسلت جسده الصغير، ورفع رأسه مستسلما لقدره المحتوم..

انبلجت خيوط الصباح مبللة بقطرات المطر معلنة قدوم يوم جديد بخباياه وأسراره؛ بعد ليلة مهولة بدأ النازحون بالخروج من خيمهم؛ وجوه شاحبة، وأطراف باردة، وأجساد نحيلة منهكة، وأحشاء جوعى تتلهف لرغيف خبز أو كأس شاي يبلل رمقهم الضعيف. ككل يوم تفقد بعضهم البعض؛ من استشهد ومن أحرق ومن أعدم ومن أسر ومن نهشه الجوع ومن جمده البرد.. معاناة ومآسي لا حصر لها، وعدو مجرم لا يأبى إلا الإبادة والموت يتربص بهم من كل حدب وصوب.

وفي جلسة مهيبة ظهر الأب جالسا حاملا طفله بين يديه رافعا رأسه إلى السماء بشموخ وكبرياء، وحاله يقول: إن انقطع الأمل في الأرض ففي الله الرجاء وله سبحانه الدوام والبقاء، استشهد الأب وصغيره، ورحلا إلى حيث المسكن والدفء والعيش الرغيد، إلى حيث لا ظمأ ولا جوع ولا برد ولا نصب ولا وصب ولا صخب ولا ظلم.

اقرعوا الطبول وأقيموا الأفراح وارقصوا على جثث الأبرياء وتزينوا بدماء الأطفال والنساء.. أقيموا الأعياد.. أضيئوا الأبراج والسماء.. فقد ماتت أمة المليار..

وجاع جائع في بلاد الإسلام..

وتجمد صغير والعالم في الدفء نام..

قتل شعب وعذب وأحرق وأسر والكل يدعو للسلام..

فسلام عليكم يا أهل فلسطين..

وصبرا كصبر أصحاب الأخدود..

فالنصر آت.. النصر آت..